احبتى فى الله والاخوه الكرام
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا.. وانت تجعل الحزن إن شئت سهلا..
إخوانى في الله
هذه الايه وردت فى سوره الكهف عند سؤال كفار مكة الذين أرادوا أن يحرجوا رسول الله،
ويروي أنهم أرسلوا رجلين منهم هما: النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أهل الكتاب في المدينة ليسألوهم عن صدق رسول الله، وما خبره عندهم، وما ورد عنه في كتبهم.
وقد كان يهود المدينة قبل البعثة يتوعدون الأوس والخزرج عباد الأصنام ببعثة النبي الجديد،
يقولون: لقد أطل زمان نبي نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم؛ لذلك رغب أهل مكة في سؤال يهود المدينة عن صدق رسول الله
فلما ذهب الرجلان إلى يهود المدينة قالوا: إن أردتم معرفة صدق محمد فاسألوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجابكم فهو صادق،
اسألوه: ما قصة القوم الذين ذهبوا في الدهر مذاهب عجيبة؟
وما قصة الرجل الطواف الذي طاف الأرض شرقاً وغرباً؟
وما الروح؟
وفعلاً ذهب الرجلان إلى رسول الله، وسألاه هذه الأسئلة فقال صلى الله عليه وسلم:
"أخبركم بما سألتم عنه غداً"
وجاء غد وبعد غد ومرت خمسة عشر يوماً دون أن يوحي لرسول الله شيء من أمر هذه الأسئلة، فشق ذلك على رسول الله وكبر في نفسه أن يعطي وعداً ولا ينجزه.
وقالوا: إن سبب إبطاء الوحي على رسول الله في هذه المسألة أنه قال: "أخبركم بما سألتم عنه غداً" ولم يقل: إن شاء الله؛ ولذلك خاطبه ربه تبارك وتعالى بقوله:
{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا "23" إلا أن يشاء الله .. "24"}
(سورة الكهف)
وهذه الآية في حد ذاتها دليل على صدق رسول الله، وعلى أدبه، وعلى أمانته في البلاغ عن ربه عز وجل، وقد أراد الحق سبحانه أن يكون هذا الدرس في ذات الرسول ليكون نموذجاً لغيره،
وحتى لا يستنكف أحد إذا استدرك عليه شيء، فهاهو محمد رسول الله يستدرك عليه ربه ويعدل له.
فكأن قوله تعالى:
{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا "23" إلا أن يشاء الله .. "24"}
تربية للأمة في شخصية رسولها حتى لا يستنكف المربى من توجيه المربي، مادام الهدف هو الوصول إلى الحقيقة،
فإياكم أن ترفضوا استدراك رأي على رأي حتى وإن كان من الخلق،
فما بالك إن كان الاستدراك من الخالق سبحانه، والتعديل والتربية من ناحيته؟
وإليك مثال لأدب الاستدراك ومشروعية استئناف الحكم، لقد ورد هذا الدرس في قوله تعالى:
{
وداود وسليمان إذا يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين "78"}
(سورة الأنبياء)
فكان حكم داود عليه السلام في هذه المسألة أن يأخذ صاحب الزرع الغنم التي أكلت زرعه،
فلما بلغ سليمان هذه الحكومة استدرك عليها قائلاً:
بل يأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بها، ويأخذ صاحب الغنم الزرع يصلحه حتى يعود إلى ما كان عليه، ثم تعود الغنم إلى صاحبها، والزرع إلى صاحبه.
لذلك قال تعالى بعدها:
{ففهمناها سليمان .. "79"}
ولم يتهم داود بالخطأ، بل قال:
{وكلاً آتينا حكماً وعلماً .. "79"}
ونلحظ هنا أن الاستدراك لم يأت من الأب للابن، فيكون أمراً طبيعياً،
بل جاء من الابن للأب ليؤكد على أنه لا غضاضة أن يستدرك الصغير على الكبير،
أو الابن على الأب، فالهدف هو الوصول إلى الحق والصواب،
وبني الله سليمان في هذه المسألة لم يغض الطرف عن هذا القصور في حكومة أبيه،
بل جهر بالحق ونطق به؛ لأن الحق أعز من أي صلة حتى لو كانت صلة الأبوة.
ومن هذه القضية نعلم استدراك الخلق على الخلق أمر طبيعي ومقبول لا يستنكف منه أحد،
ومن هنا جاءت فكرة الاستئناف في المحاكم،
فلعل القاضي في محكمة الاستئناف يستدرك على زميله في المحكمة الابتدائية، أو يقف على شيء لم يقف عليه، أو يرى جانباً من القضية لم يره.
ولنا هنا وقفة مع أمانته صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الله، وأنه لم يكتم من الوحي شيئاً حتى ما جاء في عتابه والاستدراك عليه، فكأنه أمين حتى على نفسه، فالرسول هو الذي بلغنا:
{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا "23"}
وهو الذي بلغنا:
{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك .. "1"}
وهو الذي بلغنا في شأن غزوة بدر:
{عفا الله عنك لم أذنت لهم .. "43"}
(سورة التوبة)
وغيرها كثير من آيات القرآن؛ لذلك مدحه ربه تعالى بقوله:
{وما هو إلى الغيب بضنينٍ "24"}
(سورة التكوير)
حتى في مجال التهديد والوعيد لم يكتم رسول الله من الوحي حرفاً واحداً، انظر إلى قوله تعالى:
{ولو تقول علينا بعض الأقاويل "44" لأخذنا منه باليمين "45" ثم لقطعنا منه الوتين "46"}
(سورة الحاقة)
إنها الأمانة المطلقة والصدق الذي لا يخفي شيئاً.
ألم يكن جديراً بالقوم أن يفقهوا هذه الناحية من رسول الله، ويتفكروا في صدقه صلى الله عليه وسلم حين يخبرهم عن نفسه أشياء لم يعرفوها، وكان من المنتظر أن يخفيها عنهم؟ أليس في ذلك دليلاً قاطعاً على صدقه فيما يقول؟
والحق تبارك وتعالى حينما يعلمنا أن نقول: إن شاء الله إذا أقدمنا على عمل في المستقبل
إنما يكرم عبده ويحميه حتى لا يوصف بالكذب إذا لم يحقق ما وعد به،
وليس في قولنا: إن شاء الله حجر على أحد، أو تقييد لطموحات البشر كما يدعي البعض أن قول إن شاء الله يلغي التخطيط للمستقبل.
نقول: خطط كما تريد، ودبر من أمرك ما شئت، واصنع من المقدمات ما تراه مناسباً لإنجاح سعيك،......
لكن ما عليك إن قرنت هذا كله بمشيئة الله، وهي في حد ذاتها عون لك على ما تريد،.
فإن أخفقت فقد جعلت لنفسك حماية في مشيئة الله، فأنت غير كاذب،
والحق تبارك وتعالى لم يشأ بعد أن تنجز ما تسعى إليه.
والحقيقة أن الحدث في المستقبل لا يملكه أحد، ولا يضمنه أحد إلا الله تبارك وتعالى؛
لذلك عليك أن تعلق الفعل على مشيئة الله،
فإن قلت مثلاً: سأقابل فلاناً غداً لأكلمه في كذا، فهل تملك أنت من عناصر هذا الحدث شيئاً؟
أضمنت أن تعيش إلى غد؟
أضمنت حياة فلان هذا إلى الغد؟
أضمنت أن موضوع المقابلة باق لا يتغير فيه شيء، ولا يطرأ عليه طارئ؟
إذن: فكيف تقطع بالقول أنك ستفعل غداً كذا؟
قل: إن شاء الله، واخرج من دائرة الحرج هذه.