الوزارة منصب رفيع، يتبوأ صاحبه ثقة ولاة الأمر، إذ يعتمدون عليه ـ بعد الله تعالى ـ في تخفيف العبء الذي نيط بهم. لذا فإن الوزير في لغة العرب مشتق من الوَزَر وهو: الجَبَلُ الذي يعتصم به لينجو من الهلاك، فوزير الخليفة معناه الذي يعتمد على رأيه في أموره, ويلتجئ إليه. ويحمل أثقال ما أسند إلى الخليفة من تدبير.
ولقد كان الوزراء في الإسلام مضرب مثل الوفاء والنصح للأئمة والأمة، مما سيَّر ممالك المسلمين على أحسن سيرة وأتمها، إلا أن نفوساً ضعيفة، ملأها الحقد والغل، وطبعت على اللؤم والغدر تسللت إلى هذا المنصب العالَي لتكون سوسة النخر في كيان الأمة، لا يهدأ بالها، ولا يقر قرارها حتى تشاهد الأمة ممزقة في ولاتها ودينها وأخلاقها واقتصادها ودمائها {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} وإن أضرَّ تلك النفوس الخؤونة على المسلمين ما لبست لبوس الدين وتسترت بعلمائه الصادقين حتى تظفر ببغيتها فتكشِّر عن أنياب الحقد وتمتشق سيوف الغلبة فتجيلها في العلماء والأمراء بكل سرور وهناء، مديرة لهم الوجه الثاني الذي لم يكتشفوه إلا بعد الواقعة، فلا يكاد أحد منهم يصدق ما رأى، بل يكذب عينيه ـ أعلى شاهدين عنده ـ عندها يكون الحال كما قال الأول:
سوف ترى اذا انجلى الغبار *** أفرس تحتك أم حمــار
لقد سطر الوزير ابن العلقمي أسوء صور الغدر والخيانة في تاريخ الوزارة، وكم له من أحفاد وأنجال يخبؤهم الزمن تارة ويظهرهم أخرى. إن ابن العلقمي نموذج للوزراء الساعين إلى الهدم والقضاء على الجماعة، فهو كخضراء الدِّمن، وكالورم الخبيث، لا يدرك حتى يقع فأسه في مقتل، ويمدح الخلفاء بشراهة وغلو، ويخضع لهم بالقول، ويظهر بمظهر الخادم المطيع، إلا إن سكينه خلف ظهره، حتى واتت الفرصة وخز، فعل المنافقين الجبناء.
وعلى قدر ما يفوح من لسانه المدح الغالي؛ على قدر ما ترى أعماله تزرع ألغاماً في طريق الأمة، كلما ثار لغم أوشك تبيعه أن يثور. فما وزن ذاك المدح والثناء؟ إن وزنه عند أهل الألباب لهباء بل لهبٌ وبلاء!!
كان ابن العلقمي ـ محمد بن محمد بن علي بن العلقمي ـ وزيراً للخليفة المستعصم بالله عبد الله بن المستنصر بالله منصور بن الظاهر بأمر الله ـ آخر خلفاء بني العباس ـ وزر له أربع عشرة سنة. ومدحه نظماً ونثراً. من ذلك أن المستعصم بعث إليه شدة أقلام. فقال ابن العلقمي: قبل المملوك الأرض شكراً للإنعام عليه بأقلام قلمت أظفار الحدثان... الخ ثم قال شعراً:
لم يبق لي أرب إلا وقد بلغت *** نفسي أقاصيه براً وإنعامــا
تعطي الأقاليم من لم يبد مسألة *** له فلا عجب أن تعطى أقلاما
فما لبث أن بان مدحه هذا ذبحاً، ونصحه فضحاً، وولاؤه لأواء، فهو مسقط الخلافة العباسية، وجالب الجيوش التتارية لتوقع بالمسلمين ألوان الجرائم التي أذهلت أهل الدنيا إلى اليوم... إن منصبه هذا خوله لأن يحل بالخلافة وجماعة المسلمين ما لا يستطيعه أعدى الأعداء من خارج الأمة.. لقد أقدم بكل جراءة على أن يكاتب «هولاكو» ملك التتار، بأي شيء؟ وعلى أي أمر؟ إنه يطلب منه هدم عاصمة الخلافة «بغداد» يستحثه ويجريه على ذلك!!! يضع بين يديه أحوال المسلمين وأسرارهم. وكان قبل ذلك قد سعى ـ تحت ثوب النصح ـ لدى الخليفة لتقليل عدد الجيش، فصار ما أراد وأمل، إذ بلغ عدد الجيش أقل من عشرة آلاف فارس.
فقدم «هولاكو بن تولي خان بن جنكيز خان» بغداد في أول سنة ست وخمسين وستمائة بجيوش عظيمة تسد الآفاق. وكان في معيته نصير الدين الطوسي الذي استصحبه بعد فتحه «قلاع الألموت» ـ وكان الطوسي وزيراً لحكامها ثم أصبح وزيراً لـ«هولاكو» ـ فأشار الوزير ابن العلقمي على الخليفة: أني أخرج إلى «هولاكو» فتوثق لنفسه ثم رجع، فأشار ـ ثانية ـ على الخليفة بأن يخرج إليه ويمثل بين يديه لتقع المصالحة... فخرج الخليفة المستعصم بالله في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان. فلما اقتربوا من منزل «هولاكو» حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً، وأنزلوا عن مراكبهم فنهبت وقتلوا عن آخرهم. فلما مثل الخليفة بين يدي «هولاكو» ضرب وأهين. ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته: نصير الدين الطوسي وابن العلقمي وغيرهما، فأحضر شيئاً كثيراً من الذهب والجواهر النفيسة. ثم رجع إلى «هولاكو» فأمر بقتله فقتل خليفة المسلمين رفساً بالأرجل، فقرت أعين الخائنين... بعدئذ خلت الدار فدخلت جيوش «التتار» عاصمة الإسلام لا يدافعهم أحد: فلا تسأل عما فعلوا من القتل والسلب والاستباحة، جرت سيول الدماء وبقيت البلدة كأمس الذاهب. وبلغ عدد القتلى ثمانمائة ألف على الصحيح. وقيل مليوناً وثمانمائة ألف قتيل. حتى بكى اليهود والنصارى حزناً على ما جرى.
قال ابن القيم مصوراً ما حدث في «نونيته»:
وكذا أتى الطوسيُّ بالحرب الصريح **** صـارم منه وسل لسـان
وأتى إلـى الإسـلام يهـدم أصله **** من أسـه وقواعـد البنيان
وأراد تـحويل الشريعـة بالنَّواميس **** الـتي كانـت لدى اليونان
لكنـه علم اللعـين بـأن هـذا **** ليس في المقـدور والإمكان
إلا إذا قتل الخليفـة والقضـاة **** وسائـر الفقهـاء في البلدان
فأشار أن يضع التتار سيوفهـم **** في عسكر الإيمان والقرآن
فغدا على سيف التتار الألف في **** مثل لها مضروبة بـوزان
وكذا ثـمان مئينهـا في ألفها **** مضروبة بالعـد والحسبان
حتى بكى الإسلام أعداه اليهود **** كذا المجوس وعـابدو الصـلبان
فشفى اللعين النفس من حزب **** الرسول وعسكر الإيمان والقرآن
فظن ابن العلقمي وقرينه النصير الطوسي أن هذا آخر لواء للسنة يرفع، فكذب الله ظنهما وخيب سعيهما، فأقام الله للسنة وأهلها مقاماً تحقيقًا لوعده الذي لا يخلف {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فهذه دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وولاية آل سعود تخفقان في كبد السماء: نصراً للتوحيد ونشراً للسنة. نسأل الله لها الثبات والتوفيق والحماية من أهل السوء الذين تقلقهم دعوة التوحيد وتكدر عيشهم، فينشرون في «جامعات» المسلمين: أن دعوة محمد بن عبد الوهاب قد انتهت بموت مؤسسها؟!!
أما ابن العلقمي فقد تحقق فيه قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} قال الذهبي عنه: «حفر للأمة قليباً فأوقع فيه قريباً. وذاق من الهوان، وبقى يركب كديشاً وحده، بعد أن كانت ركبته تضاهي موكب السلطان. فمات ـ بعد الكائنة بثلاثة أشهر ـ غبناً وغماً، وفي الآخرة أشد خزياً وأشد تنكيلاً» أهـ.
مقال للشيخ:
عبدالسلام بن برجس آل عبدالكريم رحمه الله تعالى
منقول من موقعه