علاج العنوسة والبطاله
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد :
فمن الشواهد اللافتة للنظر أن الأزمات التي تعتصر البشر كالعنوسة والبطالة والكساد لا تكاد تشكل ظاهرة في حياة المتدينين إذا قورنوا بغيرهم، فالعنوسة مثلاً تستفحل وسط المتبرجات من كل الأوساط الاجتماعية ولا تكاد تذكر في المجلببات والمنقبات، مع أن النظر المادي السطحي يقول : إن المتبرجة ستخطف الأنظار وخصوصًا وهي بكامل زينتها تختلط بالرجال الأجانب عنها، تضاحك هذا الزميل وتصادق هذا الصديق، بل ولربما تعاملت معاملة الأزواج مع هذا وذاك وعلى العكس والنقيض فالمجلببة تغض بصرها ولا يكاد يراها أحد وتتحفظ في تعاملها ولا تكاد تختلط بالرجال الأجانب عنها، الأمر الذي يدعو إلى التأمل والنظر بل لوحظ أن كثرة من المتهتكين والمنحرفين يرفضون الزواج إلا من منقبة أو محجبة، فهل ذلك لمعرفتهم بأحوال كثير من المتبرجات وسهولة الإقناع بهن، وأنهن لا يؤتمن على بيت وأسرة وأولاد، وهل يقال من طلب رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، وأن الجزاء من جنس العمل، وأن تدبير المنحرف تدميره، وكيده يرتد إلى نحره، فهذا جزاء عدم التعظيم لحرمات الله ولشعائر الله جلا وعلا.
إن الرجل قد يلهو مع هذه ويفجر مع تلك، ولكن إذا أراد أن يتزوج كان له شأن آخر، بل هذا التسيب والانحراف من جملة أسباب العنوسة في الرجال والعزوف عن ا لزواج، فلماذا يتزوج وكيف يتزوج وقد صار الحبل على الغارب.
وشبيه بالعنوسة ما يحدث في عالم الاقتصاد والمال، فالكل يضج من الكساد والبطالة بينما تجد المتدينين في غاية الرضا وكأنهم لا يعيشون هذه الأوضاع البائسة ولا يحسون في جملتهم ما يحس به سائر الخلق من ضنك الحال وشظف العيش، فهل كان ذلك لأنهم يعلمون أن الشكوى لغير الله مذلة، وأنهم لا يليق بهم إلا الرضا عن الله في كل حال، وأن الله سيجعل من بعد عسر يُسرًا، وأن الأرازق مقسومة، وأن أقل القليل من الدنيا يكفيهم، فليس لك من مالك إلا ما أكلت وأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت، وأن من امتلك قوت يومه وبات آمنًا في سربه وكانت له زوجة يأوي إليها فقد حيزت له الدنيا بحزافيرها، وأنه أشبه بملك من ملوك الدنيا، وهل هذا الرضا وهذه القناعة كانت لتفكيرهم في الموت والقبور والآخرة ولمعرفتهم بالدنيا وتقلبها وسرعة رحيلهم وأنها دار ابتلاء واختبار، وأن المرجع والمآب إلى الله، فكان منهم هذا التجمل فلم يشتكو الرحيم للذي لا يرحم.
لا يمكن قراءة هذه الظواهر كالعنوسة والكساد.... قراءة صحيحة ومعرفة علاجها إلا بالرجوع للكتاب والسُنَّة «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير»، وقد ربط سبحانه بين الأسباب والمسببات وبين المقدمات ونتائجها فقال سبحانه «فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا» وكان عمر رضى الله عنه يقول: «إني لا أعد للحادث الذي يحدث سوى طاعة الله ورسوله هذا الذي بلغنا به ما بلغنا».
إن العنوسة والبطالة والكساد تُعالج بالاستغفار فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب، قال الله تعالى : «فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا».
والدعاء من أعظم أسباب تفريج الكربات وقضاء الحاجات، قال الله تعالى:«وقال ربكم ادعوني أستجب لكم»، وكان عمر -رضى الله عنه - يقول: إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء، والأخذ بأسباب إجابة الدعاء، كاستقبال القبلة، والتضرع والتذلل والإلحاح على الله بالطلب وتخير وقت من أوقات الإجابة وتطييب المطعم والمشرب والملبس... هذا أيسر بكثير من التذلل للمخلوقين والتعامل بالربا وركوب المعاصي والذنوب.
المشاكل تعالج بتقوى الله، قال تعالى :«ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب»، وقال: «ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا»، فلو كادتك السموات السبع ومن فيهن والأراضين السبع ومن فيهن، وكنت على تقوى الله لجعل الله لك من بينهن فرجًا ومخرجًا «إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون»، لا يضيع ولا يخيب من توكل على الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ومن توكل على الله كفاه «أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه».
إن الزواج من أسباب سعة الرزق على عكس ما يتوهم الماديون، فمن الثلاثة الذين حق على الله عونهم الناكح يبتغي العفاف، وكان عمر-رضي الله عنه- يقول : عجبًا لمن لم يلتمس الغنى في النكاح والله يقول : «إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله»، وقد تزوج نبي الله موسى من ابنة شعيب ولم يكن يملك مسكنًا للزوجية ولا مهرًا يدفعه إلا أن يؤجر نفسه أتم الأجلين عشر حجج، فبعد أن سقى الفتاتين توجه إلى الظل وقال : «رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير فجاءته إحداهما تمشي على استحياء»، قول العلماء من كانت له حاجة كحاجة نبي الله موسى-عليه السلام- فليدعو بدعائه وتوقع حاجته بالله، وكذلك فإن متابعة الحج بالعمرة من أسباب الغنى والسعة على رغم أنف الماديين الذين لا يجيدون استقراء الشرع والواقع، فقد قال الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة».
ولوسعينا في تفريج الكربات وقضاء الحاجات وكان منا الاهتمام بالفقراء والأيتام والأرامل والمساكين لكان ذلك من أعظم أسباب تيسير أحوالنا، فالجزاء من جنس العمل، فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وفي الحديث «وهل تُنصرون وترزقون إلا بضعفاءكم»، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمجترف ا لذي أتى يشتكي أخيه الضعيف : «إنما ترزقون به».
وكذلك فصلة الأرحام وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله وترك الذنوب والمعاصي....
فالعنوسة والكساد والبطالة... وغيرها من المشاكل والأزمات لا تعالج في الجملة إلا بطاعة الله فلا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه.
ولا مانع أبدًا من الأخذ بالأسباب المادية المباحة والمشروعة التي يتكلم عليها خبراء الاجتماع والاقتصاد، كل ذلك مع عدم إغفال معاني الإيمان، قال تعالى: «لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر» فما تقدم من تقدم إلا بطاعة الله، وما تأخر من تأخر إلا بمعصية الله، ولتعلم أن الدنيا لا تصلح عوضًا عن معنى من معاني الآخرة، ونظرة سريعة على عالم المتدينين قديمًا وحديثًا يجعلك تدرك معنى السعادة الحقيقية، وإن المشاكل لا تعالج علاجًا ناجحًا إلا في ظل الإيمان، وإلا فالغنى لم يعالج العنوسة في دول الخليج وغيرها، والدراسات والخبرات الاقتصادية لم تمنع الأزمة المالية الراهنة في أوروبا وأمريكا ولو قلت هي أزمة وليدة الربا والظلم والبغي لم تخطئ، قد لا يتزوج الإنسان لسبب أو لآخر، وقد يعيش حياة الفقر ولكن لا يخسر دينه ولا ينسى ربه، فالحياة بغير الله سراب، قال تعالى:«ومن يؤمن بالله يهد قلبه»، وقال تعالى : «من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى فلنحيينه حياة طيبة» وهي حياة القناعة والرضى واليقين.
وآخر دعوان أن الحمد لله رب العالمين.
منقول بتصرف للامانة