تعد مدائن صالح من أقدم الآثار وأشهرها وأعظمها عبرة، ومدائن صالح تقع بالقرب من مدينة تبوك في شمال المملكة العربية السعودية، وتشمل عدة كهوف ومقابر منحوتة في الجبال لأقوام حكموا شعوب هذه المنطقة من آشوريين وأنباط ورومان وعرب، كما ارتبطت المدائن بقوم ثمود الذين عايشوا النبي صالح.
وأول انطباع لدى زائر هذه المدينة هو الرهبة والخشوع رغم مرور عهود طويلة على هلاك قومها والذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون)، وكان أول ذكر لقوم ثمود في نقش الملك الآشوري سرجون الثاني (721- 705 ق. م) حيث سجل في هذا النقش انتصار الملك الآشوري على قبائل ثمودية في شمال الجزيرة العربية.
مدخل المدائن
وحينما تدخل مدائن صالح ترى كأنك مقبل على كتلة جبلية واحدة متراصة بعضها متشابك في بعض، وهذه الكتلة هي سلسلة جبال (الأناصف) والفرق بين هذه الكتلة والأخرى هو بعض انخفاض بسيط في قممها بحيث ترى أن منظر (الأثالث) أقل في الارتفاع من الجبال النصفية، لكن إذا ولجت داخل مدينة الحجر وجدت نفسك بين جبال متقطعة كل جبل على حدة، ويفصل بين كل جبل وآخر شارع مستقيم إلا أن الرمال المتكاثفة تغطي الشارع كله تقريباً في بعض الأماكن،وتارة ترى بين كل ثلاثة جبال أو أربعة شارع، والشوارع كلها منظمة وفسيحة كأنها قد خططت في العصر الحاضر، ثم ترى الجبال منفصلة عن بعضها انفصالا فنيا.
ويقول العلامة (حمد الجاسر) يرحمه الله – إن صالحاً هذا رجل عباسي مسلم وأن منطقة مدائن صالح كانت معروفة ومسكونة وباقية إلى ما بعد القرن الثالث الهجري،ويدل على ذلك ما نقش على آثارها وقد سميت بهذا الاسم بعد أن كان اسمها ( الرحبة )
وخلال جولتنا في هذه الديار وجدنا أنفسنا بين آلاف الجبال المنفصلة عن بعضها بشكل هندسي رائع حتى تخيل لنا أننا نمشي بين شوارع من جبال وكل جبل منها منحوت بنقوش غاية في الدقة والإتقان.
المدائن.. وذكاء العرب
يقول المؤرخ محمد عبد الحميد مرداد في كتابه ( مدائن صالح )..( أن مدائن صالح هي بلاد عربية نحتت بأيد عربية تشهد للعرب بالذكاء وشدة الحذق وبطولة الاختراع وسلامة الذوق وحسن التفكير، وأنه في تجواله بهذه المدائن قد رأى أشباحاً ورسوماً وكهوفاً وأراضي سائخات وجبالاً ملونة بعضها أحمر وبعضها رمادي، كل جبل منها يعبر عن سكنى عائلة مستقلة عن الأخرى).
ولا ترى النقوش على وجه الجبال إلا في داخلها أو على قممها أو ما كان معدا للزينة والتحفة، ثم ترى مداخل البلاد من طريق (العلا) كأنك داخل على جبال مقوسة أو شوارع منظمة كما يسمى في الوقت الحاضر بأقواس النصر، كما أن الجبال التي على حافة مداخل البلد مشطورة نهائياً كأنها قسمت بسيف حاد حتى لا يزدحم الناس بالدخول، وتشاهد مداخل شارع مجالس السلطان مرتفعة ومنحوتة نحتاً رائعاً، وهذا المدخل الرئيسي المؤدي لمجالس السلطان أعظم روعة من المجالس السابقة.
مدائن صالح.. مدينة الرحبة
ومدائن صالح سميت في عهد الرسول صلى الله عليه و آله بمدينة (الرحبة) وقد مرّ عليها في طريقه إلى غزوة تبوك، وكان اتباعه قد نزلوا بها وأعدوا فيها الطعام، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك أمرهم بالكف عن الطبخ وأن يقدموه للإبل مع الرحيل من ذلك المكان، وقال لهم صلى الله عليه وسلم – كما جاء في صحيح مسلم (لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم ما أصابهم).
ويشاهد عند مدخل كل جبل دهليز مفرغ، ثم سلم من الصخر يصعد إلى بعض المجالس الجبلية وبعض المصاعد التي توصل إلى غرف واسعة، أمامها مقدمة جبلية فيها نحت كالشباك تطل منه على نوافذ صغيرة يدخل منها نور وشمس وريح، حتى أن الهواء إذا انطلق بشدة في جوف هذه الجبال يخيل إلى الزائر أنه أصوات موسيقية،كما يشاهد على المداخل ونوافذ معظم الجبال نقوشاً قديمة الحفر، وبعض الكتابة "الثمودية " كأنها توحي باسم صاحب الجبل المنحوت وأفراد عائلته وتاريخ نحته.
حكاية الناقة.. والوادي المشؤوم
وعند مدخل المدينة بعد اجتياز سهول أودية يطلق عليها (أودية المعظم) القريبة من الشام يرى الزائر جبلا شامخا رفيعا منفصلا عن بقية الجبال يسمى بجبل (الحوار) أي فصيل الناقة التى عقرها قوم نبي الله صالح عليه السلام بعد أن طعنها "قدار بن سالف"، وسبب عقر الناقة كما قال ابن كثير وابن جرير وأصحاب التاريخ قالوا: أن قدار يهوى(قطام) – ومصدع يهوى (قبال) فيجتمعان بهما – وفي بعض الليالي قالتا لقدار ومصدع لا سبيل لكما إلينا حتى تعقرا الناقة وتقتلاها فقالا: نعم وخرجا وجمعا أصحابهما وقصدوا الناقة وهي على حوضها فقال الشقي قدار لأحدهم أذهب فاعقر فأتاها متعاظماً ذلك وهاب منها فبعث آخر فكان مثل صاحبه حتى أرسل كثيراً منهم فكانوا يتعاظمون قتلها – فمشى إليها وتطاول فضرب عرقوبها فوقعت تركض، وكان ذلك في واد فسيح يتخلله شعب أسود بين جبلين أسودين شاهقين على شكل الهرمين، ويسمى هذه الشعب بالمزحم، وبالقرب من هذا الوادي بئر مطمورة تسمى حتى اليوم (ببئر الناقة ).
جبال جميلة
وقرب المزحم توجد جبال مختلفة الأشكال والأحجام والنحت والنقش والاسم ولا زالت باقية حتى هذه اللحظة ولها مسميات مختلفة مثل الأثالث وسميت بذلك بسبب غرق ثلثيها في الأرض كما يؤكد ذلك البدو الرحل، والأناصف، أو الجبال النصفية وهي من تسمية البدو أيضا حتى الوقت الحالي وهي التي نصفها غائر في الأرض ونصفها العلوي بارز على وجهها وتشمل معظم وادي الحجر إلى حدود هدية قرب المحطة السابعة للسكة الحديدية من الأردن.
وبعض الجبال منحوت ومفرغ تفريغا فنيا لدرجة أنه يصلح للسكنى والنزهة والتحصن والوقاية.
ومن أشهر الجبال الموجودة في هذه المنطقة:
جبل الذهب: وارتفاعه أكثر من ألف قدم ويبعد عن جبل الحوار بنحو خمسة وثلاثين جبلا وهو متصل بسلسلة صغيرة من الجبال المنحوتة هو في وسطها كأنه سنام بعير ضخم، كما يوجد به عروق ملونة كأنها أسلاك كهربائية عارية.
ويرجع البعض سبب تسميته بالذهب تقديرا له بين الجبال ولقيمته الحجرية الصلبة وصلاحيته للنحت والحفر والسكنى.
جبل الطيور: وهو على بعد نصف ميل من المزحم مكان عقر الناقة، وهو أيضا غير منحوت، وهو أعلى من جبل الذهب قليلاً، ويوجد عليه تماثيل للطيور، وعلى حافته بعض الأعشاب الجميلة، وبأسفله نحت بشكل مبسط.
جبل صرخود: وهو منحوت من عدة نواح من أطرافه الأربعة، وكل نحت يكفي لجلوس أربعة أشخاص، ويوجد فيه مغارات في كل مغارة تمثال صخري يشبه أصنام الوثنيين.
جبل بلاعم : وهذا الجبل ليس به نحت كبقية الجبال المنحوتة المعدة للسكنى، ويدل عدم نحته على أنه ذو قيمة معدنية،وفي قمته مغارة صغيرة تصلح للاستظلال أو للوقاية من الأمطار.
جبل دحدر: وهو جبل شامخ قريب من جبل الحوار يفصل بينهما جبل أسود صغير، وليس به نحت، ومن المحتمل أنه يحتفظ ببعض الكنوز المعدنية.
جبل الكهوف: وهو من الجبال الشامخة،وبه 16 مغارة، كل مغارة منها منحوتة بشكل مربع وتسع لجلوس تسعة أشخاص، وتدل حالته على تهيئته لاستقبال الضيوف وكأنه دار للضيافة،ويتميز هذا الجبل أيضا بشكله الرائع الجذاب، فضلا عن أن الوادي القائم به خصب وذو أعشاب كثيفة تصلح لرعى المواشي،وبعضها ذات زهور برية.
جبل بكرة: وهو عبارة عن كتلة صخرية تشبه في مجموعها جبلا صغيرا كأنه ذو قروح ملتئمة مغروزة فيه عروق جبلية مسودة تشبه خط اللحام الذي يستخدم في لصق شيئين مثل عمودين.
والبعض يطلق على هذا الجبل بالعبرة، ارتكازا إلى أن ناقة الله قد خرجت منه عبرة وآية لقوم ثمود ومعجزة لرسول الله صالح عليه السلام.
جبل جنيدع: يتوسط مجموعة من الجبال النصفية المنحوتة وهو بينها بمثابة القصر الكبير ويقع في وادي تبر،ويرجع البعض سبب تسميته بالجنيدع نسبة إلى " جندع " وهو أول من آمن بنبي الله صالح عليه السلام.
جبل العذاب: وهو الجبل الوحيد المنفصل عن بقية الجبال على مسافة بعيدة تتراوح ما بين الثلاثة إلى الأربعة أميال وهو قريب من وادي المزحم الذي تم فيه عقر ناقة النبي صالح عليه السلام،ويشبه هذا الجبل القلاع الحديثة،ولدقة نحت سلمه فإنه يمكن تسلقه بسهولة،و من هذا الجبل – كما يذكر البعض – انطلقت شرارة الهلاك لأمة بأسرها شاملة الزورع والأودية والسهول والحيوانات.
جبل المروج: وهو جبل مرتفع شامخ يزيد ارتفاعه على ألف قدم،ويوجد بسفحه أعشاب مختلفة الألوان والرائحة،وبقمته استراحة فسيحة تنبت حولها أعشاب ذات منظر جميل،ويبدو أنها كانت مخصصة لأثرياء قوم ثمود.
كما يوجد في وسط الجبل نحت في سقفه تمثال محكم الشكل والدقة في الصنع يشبه رأس النسر.
الصخور المنقوشة
في كل مكان من ديار ثمود تشاهد صخورا منقوشة بشكل رائع وجذاب بعضها داخل المغارات الكبيرة وجزء منها ملقى في سفوح كثير من الجبال الأثالث والجبال النصفية وجزء آخر موجود في السهول والأودية.
ويقال بأن قوم ثمود كانوا يستخدمونها متكئاً مثل المساند التي نستعملها في الوقت الحالي، كما تدل النقوش التي عليها على مكانة صاحب المغارة بين القوم فبعضها منقوش بدقة وبدرجة عالية من الفن والزينة، والبعض الآخر منقوش بشكل مبسط.
أودية ديار ثمود وحكاياتها
وتكثر الأودية بديار ثمود ومن أشهرها وادي خنزيرة ووادي ضرس ووادي كهيان ووادي قرح ووادي الحجر الذي يتوسط مدينة الحجر المذكورة في القرآن الكريم والتي كانت المركز الرئيسي لديار ثمود، ثم وادي برم وهو أوسع واد في الديار ويمتد من حدود الشام حتى خيبر، ووادي القرى وهو الوادي المشترك بين مدينة العلا ومدائن صالح، ووادي عرنان وهو ملاصق للعلا وتكثر به الرمال مما يجعل أخفاف الإبل تغوص فيها، ووادي المعظم،ووادي السبخة وهو من أشهر الأودية في ديار ثمود وهو واد أبيض أرضه مالحة وشكله مخيف يثير الرعب تغوص فيه الأقدام وتوجد أماكن فيه تؤدي إلى الغرق، وهو من الأراضي التي مسها العذاب، ويوجد به عشرون عينا غائرة، ولا ينبت فيه الزرع ولا تمشي فيه الماشية والإبل إلا من أطرافه، كما تكثر فيه الطيور الجارحة، مما يجعل من يتعرض للغوص أو الغرق فيه لأن يكون فريسة لهذه الطيور، وتوجد بعض الزورع المحروقة من الجذوع حتى الرؤوس في تلك الأودية وتبدأ من وادي السبخة حتى الحجر.
غابة البطيخ
وقرب الوادي المسمى بوادي هدية قبل مداخل الحجر يلاحظ الزائر أكواماً من الردم على شكل هضاب أو قطع متحجرة من الرمل يقال بأنها قبور قديمة مهجورة إلا أن تاريخها غير معروف.
أما عن الغابات الموجودة بديار ثمود فأشهرها غابة تسمى غابة البطيخ وهي على مقربة من جبل الناقة، وغابة المزحم وهي قريبة من الحجر، والغابة البيضاء ومعظمها أرض بور محروقة العشب، ثم غابة الملح وتقع في شرق وادي هدية.
النقوش والكتابة الثمودية
توجد على الصخور وكثير من الجبال نقوش وكتابة بحروف نبطية أو عربية ثمودية متنوعة، الحروف الأبجدية الثمودية هي نفس حروف الأبجدية العربية القديمة مع نقص حرف واحد هو حرف الظاء، مع اختلاف في رسم الحروف فبعضها يكتب مقلوباً والبعض الأخر معكوساً،ولا يوجد نمط محدد للكتابة أو النقش فقد تبدأ من أعلى الحجر أو الصخرة أو تبدأ من أسفله،وأيضا قد تكون من اليمين أو اليسار، وبصفة عامة فإن اللغة الثمودية- وكما يوضح المتخصصون هي لغة عربية شمالية لا تفترق كثيرا عن عربية الجاهلية وعربية الإسلام، وكثير من كلماتها نستخدمه في وقتنا الحالي
والأشعار التي وردت في قوم صالح وديارهم كثيرة ومن هذه الأشعار قول أجد الشعراء:
حوائج الناس كلها قضيت وحاجتي لا أراك تقضيهـا
أناقة الله حاجتي عقــرت أم نبت الحرف في حواشيها
وقال ابن الرومي :
شبه عصا موسى ولكنه لم يغلق لها فاهــــــا
رفقا بزاد القوم لا تفنه يا ناقة الله وسقياهــــا
من بقى من قوم ثمود ؟
يتساءل المؤرخ الكبير محمد عبد الحميد مرداد في كتابه (مدائن صالح تلك الأعجوبة)عمّا إذا كان بقي أفراد من قوم ثمود أم أن الله أهلك جميع قبائل ثمود في مشارق الأرض ومغاربها، ويستخلص الإجابة من القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى : (و ثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل).
ويعيش حالياً بعض القبائل التي ترعى الماشية حول مدائن صالح وتنصب الخيام حول الحجر ووادي المعظم ووادي هدية ومعظمهم من قبائل الشمال الذين هم من جهينة وبني عطية وعنزه وسليم وغيرهم البدو الرحل.
منقول العااااااااااااقل