اقدام تنتعل السراب
روايه بقلم الشاعر والاديب والعالم الرائد الدكتور| حمد حميد الذيابي الرشيدي
---------------------------------------------------
(1)
قضى (حمود الجوعان) نصف عمره بدوياً يحل ويرحل بغنمه وإبله في صحاري (الشمال) مع نفر قليل من أبناء عشيرته الذين دارت بهم رحى البداوة الطاحنة زمناً طويلاً على شظف من العيش مرارته أكثر من حلاوته، وحاضره لا يذكر بشيء من ماضيه سوى بسنوات القحط والجدب التي تجتاح (بادية الشمال) على فترات متقطعة تستشري خلالها طائفة من الأوبئة التي تفتك بالإنسان كالجدري والجذام والطاعون.
شاب في أواخر الثلاثينات، ربع القامة، ذو شعر أجعد متنافر كنبات (العرفج) له شارب ذو نهايتين دقيقتين تتدليان كقوسين حول الجزء السفلي من فمه على نحو نصف دائري شبيه بحذوة حصان، وعلى حواف شفته العليا من شاربه تبدو شعيرات ناتئة تشربت بكدرة صفراء من أثر تدخين (السجائر) التي يحرص على شرائها آخر كل شهر حين يقصد سوق (شمالات) في (الشمال) ليبيع بعضاً من أغنامه هناك.
ومشكلة (حمود) التي ينفرد بها عن غيره من أبناء عشيرته أنه رجل متطفل، مسكون بحب استطلاع الأمور، ولوع بـ (مغازلة) النساء من راعيات الأغنام حين يلتقيهن في الفلاة، أو ممن يردن الغدران بقربهن لجلب المياه لبيوتهن، شغوف باقتراف المفاجآت التي توقع الناس ممن يعرفهم وممن لا يعرفهم بمواقف محرجة قد تصل إلى حد التهور .!!. بل الجنون أحياناً...!!.
ولا يتمالك (حمود) نفسه من الضحك (الهيستيري) حين يرى أحدهم واقعاً في موقف حرج حتى تعتريه نوبة من الضحك يستلقي لها على ظهره بحيث تبدو أواخر نواجذه المسودة التي نخرها السوس من أثر التدخين.
وكان كثيراً ما يراهن الآخرين حتى على أتفه الأسباب لدرجة أنه راهن ذات مرة صديقه الراعي (مطيعاً الذراع) على أن المسافة بين الغدير الذى تشرب منه أغنامهم إلى منازل أهليهم على الضفة الأخرى من (وادي الضواري) تبلغ تسعمائة وتسعة وتسعين ذراعاً (فقط).
وقد بلغ الحمق والبلاهة بـ (مطيع) حداً جعله يذرع هذه المسافة من الضحى إلى قرب غروب الشمس حتى تقرحت ذراعاه من الحصى والشوك وضلت غنمه التي تركها عند الغدير ولم يجدها إلا في صبيحة اليوم التالى.
ولذلك فقد كان (مطيع) مبعثاً للتندر بالحمقى والمعتوهين لدى أهل (الحي) حين يتسامرون في مجالسهم حول نيران بيوتهم التي يشعلونها مساء كل ليلة بين صلاتي المغرب والعشاء ليعدوا عليها طعامهم وشيئاً من القهوة والشاي، حتى لقبوه بـ (الذراع) لذرعه تلك المسافة التي لازالت رقماً مجهولاً بالنسبة إليهم جميعاً وليس من المهم أبداً أن يعرف أحدهم عنها شيئاً.
ومن يعرفون (حمود الجوعان) منذ صغره يقولون إنه – وإن كان في طباعه شيء من الرعونة و (اللقافة) إلا أنها لم تبلغ به ما بلغته في العقد الأخير من عمره، حيث أصبح رجلاً غير مأمون العواقب، مخادعاً، يخلط الجد بالهزل، والهزل بالجد، كثير الضحك على الرغم من قلة كلامه حين يحضر مجالس الرجال.
فهو لا يتحدث عن شيء إلا حين يسأل وإذا سئل أولج يده المخشوشنة ذات الأصابع النحيلة في جيبه مستخرجاً علبة سجائره ليشعل (سيجارة) يحلو له أن يدخنها أثناء حديثه بانسجام مزاجي ترافقه همهمات ضحك خفيفة حتى وإن كان الحديث مأساوياً وليس فيه ما يبعث على الضحك أو التندر.
ومع ذلك كله فإن لـ (حمود) من صفات الكرم والسخاء والشهامة التي يتصف بها ما يعوض به هذا الجانب المختل في شخصيته ومكانته بين أفراد عشيرته. هذا فضلاً عن كونه (بواردياً)(*) ما هراً لا تخطئ رصاصة بندقيته حين يسددها باتجاه هدف معين إلا فيما ندر.
وثمة مأساة شخصية يعيشها (حمود) وحده دون الآخرين منذ بضع سنوات مضت، ويعلق على خلاصه منها كثيراً من الآمال التي طالما حلم بتحقيقها في حياته حتى أصبحت هماً مؤرقاً وهاجساً غامضاً يخاتله بالخوف من المجهول، ويلبد شعوره بضبابية المصير التي لا يمكن التنبؤ بنتيجتها أو بما سوف تسفر عنه من مفاجآت طارئة قد تلقي به في محاذير لا تحمد عاقبتها.
وتتلخص هذه المأساة في أن (حموداً) قد أحب ابنة عمه (ضحى بنت عجلان) منذ صغره، وهام بها عشقاً شغل قلبه وفكره فترة طويلة من الزمن. وقد أوعز إلى عمه (عجلان) في أن تكون (ضحى) زوجة له في المستقبل حين تكبر وتبلغ مبلغ النساء من سن الزواج فهو ابن عمها وأحق بها من غيره.
وقد وافق عمه (عجلان) مبدئياً على هذه الزيجة، إلا أنه قد اشترط عليه ثلاثة شروط لإتمامها. وهذه الشروط – على ما فيها من غرابة – شروط ملزمة وواجبة على (حمود) وبدونها لن يتم زواجه من (ضحى) أبداً.
قال عمه (عجلان) بجلافته وصراحته المعهودة ذات مساء في مجلس (منصور البو) الذي ضم عدداً من رجال (الحي) ومن بينهم (حمود) نفسه:
- اشهدوا يا (جماعة الخير) ..!! إن ابنتي (ضحى) ستكون من (نصيب) ابن أخي(حمود)..هذا الجالس بينكم الآن إذا جاءني بالرؤوس الثلاثة(الملعونة) التي طلبتها منه وهي رأس (ثعبان ريع الدرب الأسود) ورأس (ذئب قاع ساق) ورأس السعلاة (هلالة).
ولجّ المجلس بمن فيه بين مندهش ومستغرب ومعارض لهذه الشروط الغريبة الفجة التي أثقل بها (عجلان) كاهل ابن أخيه (حمود) مهراً لابنته (ضحى).
ورمق بعض الحاضرين (حموداً) بنظرات تنم عن إشفاق وتعاطف ... بدا ذلك جلياً على وجوههم التي تلعقها ألسنة النار التي يتحلقون حولها، وهم يتناولون فناجين (القهوة) والشاي بين صلاتي المغرب والعشاء كعادتهم. ورشق (أبو مصلح) الذي اعتاد الجلوس متطرفاً من المجلس (عجلان) بسيل من عبارات الشتم والتقريع قائلاً والحروف تخرج من بين أسنانه:
- لا بارك الله فيك يا (عجلان) ولا في بنتك..!!.
أما بالنسبة لـ (حمود) فقد استقبل الأمر برحابة صدر وبرودة أعصاب كعادته، ولم يكن منه إلا أن أشعل سيجارته، وراح يدخنها بشغف حميمي، وهو يتمتم ويقهقه بصوت خفيض:
- بسيطة ..!! بسيطة يا عم (عجلان) (ولايهمك)..!!
أما الشيخ (محسن) شيخ عشيرة (الجواعين) فقد ظن أن (عجلان) مصابٌ بالجنون، أو ربما اعتراه شئ من الهذيان والتخريف فيما يقول نظراً لمعرفته الشخصية به، ولكونه يعرف أن (عجلان) ليس ممن يحبون المزاح كثيراً، أو ممن يكثرون الكلام في مجالس الرجال بغير داعٍ.
ولذلك فقد علق الشيخ (محسن) على ما رآه وسمعه قائلاً وهو ينفث حبات (الهيل) من الفنجان الذي يرتشفه.
- الصباح (رباح) يا (عجلان)..!! .. و (كلام الليل يمحاه النهار)!! و (حمود) يبقى ابن أخيك سواء زوجته أو لم تزوجه.
وانفض المجلس، وافترق من حضره في تلك الليلة، وأصبح (حمود) وعمه (عجلان) وابنته (ضحى) حديث أهل (الحي) وشغلهم الشاغل الذي لا يكفون عن الخوض فيه في مجالسهم، ولا يملون من تناقله على ألسنتهم، وترديده على مسامعهم.
ومكمن الغرابة التي استشعرها أهل (الحي) في هذا الأمر ليست في واقعية (الرؤوس المشروطة) ومدى وجودها على أرض الواقع فحسب– وإن كان بعضهم لا يزال يشك في ذلك– فهم يعرفون ما هو (ذئب قاع ساق)؟ وما هو (ثعبان ريع الدرب الأسود)؟ ومن تكون السعلاة (هلالة)؟ لكثرة ما تردد على أسماعهم من أنباء هذه المخلوقات، وإنما استغربوا من كونها شروطاً ملزمة وواجباً على (حمود) الوفاء بها كلها على ما فيها من قساوة وفجاجة وغلظة تحول دون تنفيذها إن لم يكن شبيهاً بالمستحيل. وفسر بعضهم كلام (عجلان) على أنه (تخريف) كما سبق أن فسره الشيخ (محسن) بينما فسره بعضهم الآخر على أنه نوع من التعسف أو التعجيز الذي أراده (عجلان) ليفوت على (حمود) فرصة زواجه من (ضحى) ويؤخره حتى يتجاوز سنه الأربعين عاماً، وبالتالى يتمكن (عجلان) نفسه من تزويجها من ابن عمها الأخر (جهز) الذي يصغر (حموداً) ببضع سنوات – والذي يعمل عسكرياً في أحد القطاعات العسكرية بمدينة (تبوك).
وكان (العرف القبلي) المتفق عليه بين جميع أفراد عشيرة (الجواعين) يقضي بأن تكون بنت العم من (نصيب) أكبر أبناء عمومتها سناً إذا رغب في الزواج منها، وأعطاه والدها نية الموافقة على هذا الزواج مبدئياً – على أن يقوم (الخاطب) بدفع تكاليف المهر وما يلحق بها من شروط مادية ومعنوية أخرى يتفق عليها الطرفان وذلك قبل بلوغه سن الأربعين.
أما إذا تجاوز (الخاطب) سن الأربعين – كحد أقصى من العمر – دون أن يفي بالشروط المفروضة عليه فإن نية الزواج تبطل وعلى (الخاطب) – في حينه – أن يبحث أمر زواجه من جديد مع عمه والد البنت الذي ربما يضطر – في مثل هذه الحالة – لتزويجها من غيره.
وها هو (حمود الجوعان) الآن على مشارف السابعة والثلاثين من عمره وقد مضى على الشروط التي فرضها عليه عمه منذ تلك الليلة المشهودة ما يقرب من أربع سنوات دون نتيجة بما يعني أنه تبقى له أربع سنوات أخرى كحد أقصى للوفاء بالشروط المذكورة، وإلا كانت (ضحى) من (نصيب) غيره.
ومن هنا كان للزمن قيمة ومعنى لدى جميع أفراد عشيرة (الجواعين) لما له من ارتباط وثيق بحياتهم الاجتماعية.
ولذلك فقد اشتهرت عشيرة (الجواعين) بين عشائر (الشمال) وقبائله بمعرفة أفرادها الدقيقة بظهور أهلة الشهور ومنازل الأبراج ومطالع النجوم والشمس والقمر وما يصاحب هذه الظواهر الكونية من تغيرات موسمية ومناخية.
إنهم قوم يراقبون السماء باستمرار ولا يغفلون عنها وكأن أمهاتهم ولدتهم لتكون وجوههم وعيونهم معلقة بالآفاق البعيدة. وفي ليلة جمعتهم في مجلس الشيخ (محسن) قال كبيرهم الفلكي (ابن ريحانة) متفكهاً:
- إننا- نحن الجواعين - قوم شغلنا بالسماء حتى نسينا مشاكلنا على الأرض..!!
فأجابه (ملحان الورطة) بتعليقاته اللاذعة المعهودة:
- أنا- شخصياً – يا ابن ريحانة لا أذكر الأرض إلا حين أرى (حمود الجوعان) !!
فتعالت أصوات الحاضرين بالضحك والقهقهات ومن بينهم (حمود) نفسه الذي استلقى على ظهره من شدة الضحك.
وعلى غدير (وادي الضواري) الذي يرده الرعاة بأغنامهم وإبلهم وقربهم من عشيرة (الجواعين) والعشائر الأخرى المجاورة لها تحتدم الجلبة والضوضاء التي يثيرها ثغاء الأغنام ورغاء الإبل المتزاحمة على الماء – فتتعالى أصوات الرعاة من رجال ونساء في محاولة لتنظيم عملية توارد هذه الأعداد الكبيرة من المواشي والدواب، فلكل راعٍ دوره الذي ينتظره لإيراد مواشيه على نحو شبه مرتب.
وعلى هامش هذه الجلبة يختلس بعض الرعاة ممن ينتظرون دورهم لحظات من وقتهم لتبادل الأحاديث وتجاذب أطراف الكلام عن أخبار الربيع وهطول الأمطار ووقت ظهور نجم (سهيل). وتتشعب الأحاديث للتطرق إلى أمور شتى عن تفشي أمراض المواشي وعن السعلاة (هلالة) و(ذئب قاع ساق) و(ثعبان ريع الدرب الأسود).
بل يصل الحديث أحياناً إلى ما استجد عن قصة (حمود) وابنة عمه (ضحى) التي تعتبر من الأحداث الراهنة على صعيد الحدث الاجتماعي بين الناس.
وها هي (ضحى) ابنة العشرين ربيعاً مع رفيقتها (حشمة) تتخذان ركناً جانبياً من الغدير بانتظار دورهما في الورود، فتخاطبها (حشمة) بنوع من العتب المشوب بالمواساة:
- والله (طوَّلها) ولدعمك (حمود) يا (ضحى) ...!! إلى متى والناس ينتظرون؟!
وتجيبها (ضحى) بنبرة مهادنة:
- إيه..!! الله كريم يا (حشمة)!! (حمود) إن كان (فيه خير) الله يقرّبه!!.. وإن كان (فيه شر) الله يبعده عنا وعنكم!!
وعلى الركن الآخر الذي يركن إليه الرجال من الغدير يقف (حمود) متلثماً بطرف (شماغه) حاملاً بندقيته على عاتقه ويتمنطق بحزام محشو بالرصاص حول وسطه.
ومع أنه قد نودي بدوره للورود إلا أنه رأى الفرصة سانحة لإظهار بعض مشاعره الودية والعاطفية تجاه (ضحى) وذلك بتقديم دورها على دوره حيث جهر بصوته:
- أوردي يا (ضحى)..!!.. أوردي يا بنت..!!
وتلكأت (ضحى) برهة إلا أنها قبلت على استحياء إيراد غنمها وهي تنأى بعينيها النجلاوين الهدباوين بعيداً عن (حمود) من شدة الخجل.
(2)
يقضى (حمود الجوعان) نهاره – كغيره من الرعاة – بين غنمه وإبله في الفلاة ويعود حين يعود الآخرون إلى بيوتهم مع غروب الشمس على سيارته (الجيب) التي يستخدمها في المراوحة فيما بين غنمه في الفلاة القريبة وبين إبله في الفلاة البعيدة عن منازل (الحي). وفي ظهيرة أحد الأيام شهد (حمود) عراكاً كلامياً بين (مطيع الذراع) و (ملحان الورطة) أثناء قيلولتهم بمواشيهم تحت أشجار الطلح أسفل (وادى الضوارى).
قال (مطيع) إن المهلة المتبقية لـ (حمود) لإيفائه بشروط زواجه من (ضحى) أربع سنوات. أما (ملحان) فقد (اجتهد) بالتدقيق فى المدة المتبقية من المهلة بقوله إنها ثلاث سنوات وعشرة أشهر (فقط).
وتواترت المشادة الكلامية بين الاثنين، فأرادا (حمودا) للفصل فيما بينهما، حيث غمز (حمود) بعينه خلسة لـ (ملحان) الذى أوجس من هذه (الغمزة الخبيثة) أن (حموداً) يريد أن يوقع (مطيعاً) فى مقلب جديد.
حينها قال (حمود) بتلكؤ خبيث متعمد:
- ....والله ..!! والله قد يكون (مطيع) صادقاً يا (ملحان)!!
...ولكن ... ما رأيكما فى أن تتراهنا لدى (ابن ريحانة) فهو أعلم بالمدة المتبقية منا جميعاً؟! ومن يخسر الرهان منكما فإن عليه شاة يذبحها لنا من غنمه.
ولم يتردد (مطيع) أبداً فى قبول هذه الفكرة التى تنطوى على خبث مدبر لا يعلمه بين (حمود) و(ملحان). واتفق الثلاثة على أن يجتمعوا الليلة لدى (ابن ريحانة) فى مجلس (منصور البو) لحسم رهانهم هذا.
وبعد صلاة المغرب اجتمعوا فى مجلس (منصور البو) وقد تأخر (ابن ريحانة) هذه الليلة على غير عادته عن المجئ ولم يأتهم إلا حين أذن مؤذن (الحي) (عثمان الحنبلى) لصلاة العشاء مما جعل الفرصة سانحة لتوتر المشادات الكلامية بين الحاضرين حول الرهان وطرفيه (مطيع وملحان).
ولما انقضت الصلاة استأنفوا مسامرتهم التى تمتد بعد صلاة العشاء إلى ما يقرب من ساعة ونصف أو ساعتين على الأكثر كما اعتادوا عليه. ومع أن الأحاديث كانت تتناول أخبار أسعار أعلاف الماشية فى سوق (شمالات) إلا أن (ملحان الورطة) قد قطعها قائلاً بـ (لقافته) المعروفة بسؤال وجَّههُ لـ (ابن ريحانة) قائلاً:
- يا (ابن ريحانة)..!!.. لقد تراهنت أنا و (ومطيع) اليوم على أن المدة المتبقية من المهلة التى حددها (عجلان) لـ (حمود) هى ثلاث سنوات وعشرة أشهر.
وأرخى (ابن ريحانة) عنقه التى كان يمدها إلى أعلى كعادته أينما كان فى السماء لمراقبة نجومها ثم قال بتراخِ:
- وما المطلوب؟
- المطلوب معرفة المدة ، هل هى كما قلت؟ أم كما قال (مطيع) بأنها أربع سنوات؟
فأجاب (ابن ريحانة) على الفور:
- بل هى ستة وأربعون شهراً واثنتا عشرة ليلة، أى أربع سنوات إلا شهراً وثمانى عشرة ليلة، وليست أربع سنوات بالتمام.
وانبهر المجلس بهذه الدقة المتناهية التى أظهر من خلالها (ابن ريحانة) معرفته الحسابية الماهرة بالسنين والشهور والليالى وسألوه عن الطريقة التى استخدمها فى حساب هذه المدة فذكر لهم باختصار أنه قد قام بجمع حصوات صغيرة عددها ست وتسعون حصاة لفها فى قطعة من القماش منذ أن فرض (عجلان) على (حمود) شروطه قبل أربع سنوات.
وكان كلما هل هلال شهر جديد ألقى بواحدة من تلك الحصوات التى تعتبر كل واحدة منها عن شهر فى حسابه، وهكذا حتى تبقى منها الآن لديه ست وأربعون حصاة.
وقال (ابن ريحانة) وأبصار الجالسين شاخصة إليه بإعجاب:
- هذا يعنى – ياجماعة – أن ثمانى سنوات تساوى عندى ستاً وتسعين حصاة، وهى عدد شهور هذه السنوات، ذهب منها ما ذهب وبقى منها ما بقى.
أما بالنسبة لحساب الليالى، فأمرها هيِّن ومعروف لدينا جميعاً إذ إننا الآن فى الليلة الأخيرة من الثلث الثانى للشهر الحالى كما يدل عليه قمر هذه الليلة.
وأحس(ملحان) أن (مطيعاً) يريد التملص من الموضوع لشعوره بالغلبة وذلك بتغييره محور الحديث عن الرهان إلى الحديث عن الربيع والأمطار فقال:
- هذا يعنى أننى قد كسبت الرهان، وعلى (مطيع) شاة يذبحها لنا من غنمه، كما يشهد (حمود) بذلك.
واستشاط (مطيع) غضباً ثم قال مزمجراً:
- لا كسبت الرهان يا (ملحان) (ولا حاجة) !!...نحن كلنا خطأ، أنا قلت إنها أربع سنوات ، وأنت قلت إنها ثلاث سنوات وعشرة أشهر، والصحيح ما قاله (ابن ريحانة) من أنها ستة وأربعون شهراً واثنتا عشرة ليلة.
فضحك (حمود) و(ملحان) بطريقة استفزازية جعلت (مطيعاً) يلقى بـ (شماغه) و(عقاله) وسط المجلس طالباً التدخل من الحاضرين لحل المشكلة.
ولذلك فقد أراد الشيخ (محسن) أن يعدل فى الموضوع لفض النزاع بين المتنازعين، حيث قال:
- أذكروا الله ياجماعة...!!... أتريدون الحق؟ ... أم تريدون غيره؟
فقال الحاضرون على لسان واحد:
- بل نريد الحق لا غيره يا شيخ (محسن).
فقال بعد تريث:
- أنا أرى الحق على (مطيع) لـ (ملحان) ... صحيح أن كلاً منهما قد أخطأ، ولكن (ملحان) كان أقرب فى خطئه للصواب من (مطيع) الذى كان بعيداً عنه. فإن كان (ملحان) قد أخطأ فى اثنتي عشرة ليلة فقط فى حسابه فقد أخطأ (مطيع) فى ثمان وثلاثين ليلة.
وهذا ما جعلنى أرجح الحق لصالح (ملحان) على (مطيع). حينها هتف الحاضرون بعدالة الشيخ (محسن) وامتعض (مطيع) لخسارته الرهان بذبيحة من غنمه، وقذفه (أبو مصلح) بشتم هامس:
- (الله يخسّك) يا مطيع..!!.. (ضحك) عليك (حمود) و(ملحان) يا(ثور)!!.
وانفض مجلس تلك الليلة بعد أن استمتع الحاضرون بما لطَّف أجواءه من مشاحنات ومغالطات لم تكن خالية من طابع التشويق التلقائى، والمزاح والدعابة.
هذا وقد اعتاد (حمود) الخروج بسيارته ليلاً ثلاث مرات فى الشهر: أولاهما فى الليلتين أو الثلاث ليالٍ الأولى منه، وثانيتهما فى منتصفه، وثالثتهما فى آخره.
ومع أن (حموداً) لا يخبر أحداً عن سبب خروجه فى هذه الليالى بالذات من الشهر إلا أن البعض يعتقدون أن خروجه فى أوله للبحث عن السعلاة (هلالة) للإتيان برأسها لعمه (عجلان) كما اشترط عليه فهم يزعمون أن (هلالة) لا تخرج إلا في الليالى الأولى للهلال كما يدل عليه اسمها.
ومثل ذلك خروجه في آخر الشهر الذي يزعم البعض أن (حمودا) يختار الخروج فيه للقنص لعلمه أن كثيرا من الأرانب البرية لا يكثر ظهورها إلا في الليالى المظلمة.
أما بالنسبة لخروجه في منتصف الشهر فقد أكد كثير منهم أن (حموداً) يخرج فيه للترويح عن نفسه لدى صديقه الراعي (وضَّاح) الذي يبيت بين أغنامه ليلا في الفلاة وهو راع شاب وسيم، حسن الهندام مهذب الخلق اشتهر بين الناس بمهارته في عزف الربابة بصوت جميل تشنف له الآذان وترق له القلوب.
ويحكى عن (وضاح) هذا أنه عاش قصة حب مع فتاة باهرة الجمال من قبيلته تدعى (مروة) انتهت بالفشل وخيبة الأمل. ولذلك فقد نزح عن قبيلته وآثر العزلة عن الناس مع غنمه وربابته يحل ويرحل وحيدا في الخلاء.
وكان (حمود) كريما سخيا مع (وضاح) فهو لا يأتي إليه إلا وقد حمل معه شيئاً كثيراً من الخبز والسمن وبعض لحوم الأرانب والطيور التي يصطادها أثناء رحلات قنصه الليلية.
وتحت أشعة القمر النيرة الهادئة يطيب التسامر والتنادم بين الصديقين العاشقين ويحلو لهما أن يتقاسما مرارة عشقهما وهيامهما على صوت الربابة وأن يغنيا مع ألحانها الشجية التي تثير كوامن الوجد والغرام.
ولا يفوت (حموداً) أحياناً أن يحضر معه لدى مجيئه لـ (وضاح) شريط (كاسيت) ومسجل لتسجيل بعض المعزوفات الغنائية التي يطرب لها أكثر من غيرها بحيث يمكنه استعادتها متى ما أراد ذلك على مسجل سيارته الجيب حين يغدو ويروح بين غنمه وإبله في الفلاة.
قال (ابن ريحانة) في مجلس الشيخ (محسن) ذات ليلة وهو يحملق في السماء كعادته إن للقمر البدر تأثيرا فاعلا على كثير من الكائنات الحية الحيوانية التي تعيش في هذه المنطقة.
فهي ـ إذن ـ مثلنا نحن بني البشر ـ تبتهج بظهور القمر ويروق لها أن تغادر جحورها في كثير من الأحيان لتستجم تحت أشعته الساحرة في العراء.
ويضيف (ابن ريحانة) بتفسيراته الروحانية ونظرياته الغريبة والجميع ينصتون إليه باهتمام قائلاً:
ـ حتى تلك الحيوانات المفترسة المتوحشة من ذئاب وضباع وثعابين وغيرها يتغير سلوكها العدواني المتوحش في الليلة القمراء ويغلب على طباعها شيء من المسالمة والألفة، بخلاف ما عرف عنها من وحشية في النهار، أو في تلك الليالى التي يفتقد فيها القمر.
وعلى غرابة هذا التفسير الذي أدلى به (ابن ريحانة) عن سلوكيات الحيوانات في الليالى المقمرة ـ وسواء كان (ابن ريحانة) صادقا فيه أو متوهما- فقد أخذه بعضهم مأخذ الجد وراحوا يفسرون من خلاله خروج (حمود الجوعان) في منتصف ليالى الشهر حين يكون القمر بدراً تام الاكتمال.
وقالوا إن خروج (حمود) في هذا الوقت ليس للترويح عن نفسه لدى (وضاح) فحسب، كما يظن البعض وإنما أيضا للبحث عن (ذئب قاع ساق) و(ثعبان ريع الدرب الأسود).
ولأن (حمودا) يعرف كغيره مسبقا أن هذين المخلوقين هما أشد المخلوقات عدوانية ووحشية وخطورة في المنطقة فقد احتاط لنفسه باستغلال تغيير سلوكهما المتوحش إلى أقل وحشية ليلة اكتمال القمر من كل شهر للقضاء عليهما في هذا الوقت بجهد أقل مما يبذله في غيره من الأوقات الأخرى.
ومن هنا تدخل في الحوار (متعب الفطين) الذي يعتبره رجال (الجواعين) أحد الرجال النابهين الحاذقين في الأمور لديهم لاهتمامه الدائم بمتابعة جهاز (الراديو) الذي يمتلكه وما يبثه من أخبار ومعلومات بقوله:
- والله أنا لا أدري يا (جماعة) أين سمعت تفسير (ابن ريحانة) هذا لسلوك الحيوانات؟! أظن أني سمعته في إذاعة (لندن) أو في إذاعة (الرياض) ما أدري .. الله أعلم!! فالأمر ليس بغريب على ذهني وذاكرتي.
وعلى الرغم من ضعف الشاهد الذي أراد به (الفطين) أن يسند تفسيرات (ابن ريحانة) بشئ من القوة إلاَّ أن البعض يرى أن قول (ابن ريحانة) ليس بحاجة إلى سند فهو عالم متبحر لا يجاريه أحد في سعة علمه ومعرفته.
واستغرب (مطيع الذراع) من كون السعلاة (هلالة) مستثناة من تأثير القمر على سلوكياتها بين الحيوانات حيث قال:
ـ و(هلالة) يا (ابن ريحانة)؟!... لماذا لا يؤثر القمر على سلوكها؟!
فضج الحاضرون بالضحك ومن بينهم (حمود) الذي سقطت (شماغه) و(عقاله) من على رأسه من شدة الضحك في حين أجابه (ابن ريحانة):
ـ (هلالة) ليست إنسانا ولا حيواناً ـ كما نعرف جميعا ـ وإنما هي خليط في جنسها وخلقها بين الإنسان والحيوان كما أعتقد. ولذلك فإنه لا يشملها تفسيري الذي ذكرته عن المخلوقات وحيدة الجنس.
ورشق (أبو مصلح) (مطيعاً) بواحدة من شتائمه الهامسة المعتادة بقوله:
ـ عسى (هلالة) تدوس في بطنك وتخلصنا منك!!... اسكت يا أهبل!..
لم يكن (عجلان الجوعان) الوحيد المعني بين (جماعته) بقتل (هلالة) وذئب (قاع ساق) و(ثعبان ريع الدرب الأسود) ولا تقع مهمة قتلها على عاتقه وحده. ولو افترض أنه أراد ذلك ـ بالفعل ـ لما استطاع نظراً لشراسة هذه المخلوقات من جهة ولعجزه البدني عن مجابهتها نتيجة وهن شيخوخته من جهة أخرى.
ولكن المحير في الأمر أن يجعل من قتلها شرطاً على (حمود).. مهراً لابنته (ضحى) بحيث ظهر للناس وكأنه الوحيد المعني بهذا الأمر دون غيره. ثم إن (عجلان) لم يتضرر من هذه المخلوقات جميعها وإن كان بعضها قد ألحق ضررا بغيره من رجال (الجواعين).
وباستثناء ذئب (قاع ساق) الذي قتل في سنة من السنوات ـ كما يعرفه الجميع ـ سبع نياق (ملح) لـ (عجلان) في ليلة واحدة وثعبان (ريع الدرب) الذي التهم (سلوقيه) (نبهان) ذات ليلة يبقى رأس السعلاة (هلالة) شرطا (مقحماً) غير مبرر على (حمود) كمهر (لضحى) لكونها لم تلحق به ضرراً كغيره.
قال (متعب الفطين) ذات يوم لنفر من (الجواعين) أثناء ورود مواشيهم لغدير (وادي الضواري) محاولاً بفطنته إيجاد تفسير واضح لتصرفات (عجلان) الغريبة وشروطه الغامضة على (حمود) إن (عجلان) قد تضرر تضررا ماديا ونفسيا بالغين من ذئب (قاع ساق) وثعبان (ريع الدرب) وهو يؤمن إيمانا كاملا بوجودهما على أرض الواقع وبأنهما لا يزالان حيين.
أما (هلالة) فإنها لم تلحق به أى ضرر يذكر بخلاف غيره ممن ادعوا إيذاءها لهم بأرواحهم وأموالهم حتى لا يصابوا بالعين والحسد ويحدث لهم ما حدث لعجلان من بؤس في حاله وماله.
ولذلك فقد اعتقد (عجلان) أن (هلالة) كائن أسطوري لا وجود له وإنما أراد بها أن تكون شرطا وهميا إضافيا ثالثاً على (حمود) لا يمكنه الوفاء به حتى وإن استطاع الوفاء بالشرطين الأساسيين الواقعيين (الذئب والثعبان). وفي هذه الحالة سيكون سعي (حمود) لـ (ضحى) في (مهب الرياح) أو كمن يطارد سراباً.
هذا ما جعل (متعباً) يتنحى جانباً كي لا يسمعه أحد قائلا بحنق:
ـ خبيث.. ما فيه أخبث منك يا (عجلان)!!
وفي المساء أتى (عجلان) قادماً من بيته إلى مجلس (منصور البو) يتوكأ على عصا حمل عليها وهن شيخوخته ليقول بحسرة غامت لها عيناه حتى كادتا تمطران بالدموع:
ـ والله مصيبة يا (جماعة الخير)..!! إلى متى وأنا أنتظر (رؤوس الملاعين الثلاثة)..؟! إلى متى يارب؟!.
ولأن (حموداً) يعرف أنه المقصود من بين الجالسين بكلام عمه وتذمره هذا فقد أشعل سيجارته بأعصاب هادئة كعادته ثم قال مهمهماً:
ـ صبرك على يا عم (عجلان)..!!.. (وسع صدرك) يا (ابن الحلال) ولا يكون إلا خير إن شاء الله.!!.
وأراد (منصور) أن يستعرض معاناته على الحاضرين ـ وإن كانوا قد سئموها لكثرة ترديدها في مجالسهم ـ موضحا أن (عجلان) ليس وحده الذي يعاني من هذه المخلوقات وإنما الجميع يعانون منها حيث قال:
ـ مصيبتك يا (عجلان) تهون مع مصيبتي.. فإن كان ذئب (قاع ساق) قد قتل لك سبع نياق، والتهم ثعبان (ريع الدرب) الأسود (سلوقيك) فقد أكلت (هلالة) زوجتي (مها) ووليدها.
والخسارة يا (ابن العم) في الأرواح (ما هي بالأموال)، أو (الحلال) الذي يسهل على الواحد تعويضه. ومجاراة للآخرين فقد أراد (مطيع) أن يستعرض معاناته للآخرين هو الأخر قائلاً بسذاجته:
ـ حتى أنا.. أكل الذئب حمار غنمي.؟!
لكن أحداً لم يلتفت إليه.
ومن هنا كان لـ (ملحان الورطة) دوره في الحديث إذ قال بسخريته اللاذعة المعهودة:
ـ صدقوني يا (جماعة) إني لو لقيت ذئب (قاع ساق) ما قتلته.
فأحاطه بعضهم بنظرات مستغربة في حين علق (مطيع) على ما قاله (ملحان) ببساطة:
ـ إن لم تقتله قتلك.
فقال: (ملحان) بروح النكتة:
ـ هذا إذا لقيني ذئب (قاع ساق) أما إذا لقيته أنا فهذا (شيء ثاني).
فضحك الحاضرون باستثناء (ابن ريحانة) الذي كان يمد عنقه منشغلاً بمراقبة النجوم عن هذه النكتة و (متعب الفطين) الذي أراد بفراسته أن يسترعي انتباه بعضهم حيث قال:
ـ لكن.. ألا ترون معي يا (جماعة) أن هناك علاقة غير مباشرة بين (هلالة) وذئب (قاع ساق)؟!.
فسألوه مستغربين:
ـ كيف (علاقة غير مباشرة) يا (متعب)؟
ـ ماذا تقصد؟
ـ ما فهمنا من كلامك أي شيء يا (متعب)..
واستغل (أبو مصلح) الجلبة التي أثارتها مثل هذه التساؤلات الاستنكارية الموجهة للفطين حيث لوى عنقه إلى الخلف قائلا وكأنه لا يريد أن يسمعه أحد:
ـ الله (يبلاك) يا (متعب)..!! ليتك صرت على (راديوك) وأخبار إذاعة (الرياض) وأسعار العلف (أحسن لك) من (هالخرابيط) (اللي) ما فهمنا منها (شي)..
ولكن (متعبا) أصر على أََن يكسب مزيدا من اهتمام الحاضرين وخاصة (ابن ريحانة) حيث قال:
- أنا أريد أن أقول يا (جماعة) إن (هلالة) تخاف من ذئب (قاع ساق) فهي لا تخرج أبدا من الكهوف ومغارات جبال (وادي الضواري) التي تقبع داخلها حين تشم رائحته أو تسمع عواءه مثلنا حتى لو كان هذا في الوقت المعتاد لخروجها في الليالى الثلاث الأولى من الشهر كما نعرف. وأرخى (ابن ريحانة) عنقه التي كان يمدها في اتجاه السماء ثم قال:
ـ والله.. قد يكون قول (الفطين) على شيء من الصواب!!
فإن صح قوله فإن ذلك يعني أن (هلالة) مخلوق (جني) أو قد تكون (إنساً) تلبسه مخلوق من (الجان).
ونحن نعرف جميعا أن (الجن) يخاف من الذئاب سواء كان ذئب (قاع ساق) أو غيره.
وهتف الحاضرون بعبقرية (ابن ريحانة) وحذقه في تحليل الأمور وتفسيرها على نحو منطقي وكأنهم أرادوا بذلك أن يستزيدوا من علمه وسعة معرفته ودقة ملاحظاته عن الكون والمخلوقات، حيث أضاف قائلاً وهو يشير بسبابته إلى نجم (الجدي) في السماء:
ـ تقع منازلنا الآن على ضفاف (وادي الضواري) ويقع (قاع ساق) شمالنا ـ كما هو معروف ـ بينما تقع الكهوف، والمغارات التي تقطنها (هلالة) في المنحدرات الجبلية الجنوبية من (وادي الضواري).
ونحن نلاحظ أن كلابنا تكثر النباح لساعات طويلة من الليل عندما تكون الرياح شرقية أو غربية.. أليس كذلك يا جماعة؟!
واندهش الحاضرون لفطنة (ابن ريحانة) وأحاطوه بهالة من التقدير والإعجاب، وطالبوه بالاستمرار في حديثة:
- نعم..!!.. نعم (يا ابن ريحانة)..!! ثم ماذا؟!
ومضى (ابن ريحانة) يقول:
- هذا يعني أنه عندما تكون الرياح شمالية فإنها تحمل معها رائحة ذئب (قاع ساق) وعواءه مما يثير قلق كلابنا ويجعلها تنبح طوال الليل مما يجعل الذئب يتجنب الخروج من مخبئه في مثل هذه الحالة.
وهذا كله بدوره وإن كان مزعجا لهلالة التي يقلقها النباح والعواء إلا انه ليس مما يشعرها بالخطر على روحها لوقوعها في الاتجاه المعاكس لتيار الرياح بحيث لا تعلم الكلاب والذئاب بمكان وجودها من المنطقة على وجه التحديد. ولذلك فإنها لا تواجه خطورة كبيرة في تنقلاتها لاقتناص فرائسها مادامت الرياح شمالية.
أما عندما تكون الرياح جنوبية فإن (هلالة) تلزم مكانها من الكهوف والمغارات، ولا تبرحها أبدا خوفا من أن تشم الكلاب والذئاب رائحتها مع تيارات الرياح.
ومع هذا الحرص الشديد الذي اتصفت به (هلالة) لحماية نفسها إلا أن الكلاب والذئاب تستطيع بحساسيتها المفرطة أن تشتم شيئا يسيراً من رائحتها المتسربة نتيجة تحركاتها وتنقلاتها القصيرة داخل تجاويف الكهف الواحد الذي تقبع داخله.
ويختلف الوضع تماما عندما تكون الرياح شرقية أو غربية حيث يسود الهدوء الجميع أكثر مما لو كانت الرياح شمالية أو جنوبية.. ولو ... ولو كانت...
وقطع على (ابن ريحانة) حديثه الذي أراد أن يكمله صوت (عثمان الحنبلي) الذي رفعه بالأذان لصلاة العشاء. وبينما هم يستعدون للتوجه إلى مسجد (الحي) فإذا بـ (مطيع) يقول:
ـ مادام الأمر كذلك فإننا لن نقتل ذئب (قاع ساق) حتى يقتل (هلالة).
واستحسن الحاضرون ما قاله (مطيع) في حين همس (أبو مصلح) قائلا:
ـ أول مرة تفكر بشكل صحيح في حياتك يا (مطيع)!!.
ومع أن العبارة التي قالها (مطيع الذراع) قد تبدو ساذجة لبعضهم إلا أن البعض الآخر وخاصة (حمود) قد أسرها في نفسه ولم يستبعدها من ذهنه على الرغم من تظاهره باللامبالاة وعدم الاكتراث بين الحاضرين.
وكان (حمود) ليلتها قد استقل سيارته بعد العشاء، وراح يتجول بين الأودية والشعاب والهضاب بحثا عن الصيد الذي اعتاد على مطاردته في مثل هذه الليالى من الشهر.
فهو أحياناً يشغل (مسجل) السيارة ليستمع أثناء تجواله لبعض معزوفات الربابة التي سبق أن سجلها بصوت (وضاح) ومرة يسلي نفسه بغناء (الهجيني) بصوته الذي تشوبه غصة من الوجد والهيام بـ (ضحى).
وقد يضطر مرة أخرى لقطع الغناء لانشغاله بمطاردة أرنب تلوح له على (أنوار) السيارة ذات اليمين أو ذات الشمال فيسدد إليها رصاصة ترديها قتيلة من فوهة بندقيته التي يندر أن تخطئ هدفها.
ويعود (حمود) بعد منتصف الليل وقد شحن (صندوق) سيارته بعدد لا بأس به من الأرانب والطيور يخصص جزءا منها لنفسه وجزءا ثانيا لعمه (عجلان) و(ضحى) وجزءا ثالثا لمن يعرف عنهم ولعهم بلحم الصيد من عشيرته.
ويقشعر بدن (ضحى) وهي تقلب الأرانب والطيور قبل فسخ جلودها وإلقائها في قدر الطبخ على النار حين ترى تلطخها ببقع الدماء نتيجة اختراق الرصاص الناري لأجزاء متفرقة من أجسادها فتصاب بالغثيان والتقزز الذي ينبش بين جوانحها مدافن الوحشة والشعور بالخوف من المجهول، فتهز رأسها أسفا وتتنهد بأنفاس مهترئة لتقول:
ـ ليتك تركت الأرانب والطيور المسكينة يا (حمود) وقتلت ذئب (قاع ساق) و(هلالة) (والثعبان).!!
(3)
كان فصل الشتاء قد أوشك على الحلول فاستعادت أشجار (وادي الضواري) بعد ظهور نجم (سهيل) كما أعلن (ابن ريحانة) قبل أيام قلائل شيئا من خضرتها بعد أن أذبلها الصيف ولفحتها سموم رياحه الحارة. وها هو (حمود الجوعان) متوقف بسيارته التي شحنها بقطيع من أغنامه في سوق (شمالات) ليبيع منها ما استطاع أن يبيعه كعادته آخر كل شهر.
ويحلو له أن يتجول بين مرافق السوق ليساوم أسعار علف الماشية عند أصحاب تلك الشاحنات الصغيرة المتوقفة على قارعة الطريق:
ـ بكم سعر كيس الذرة (يا ولد)؟
ـ سبعة ريالات.. سبعة فقط.
فيشيح (حمود) بوجهه إلى الناحية الأخرى من السوق وهو يتمتم بصوت نصف مسموع:
ـ الله (يخسك) يا (متعب الفطين) أنت وراديوك..!!
......وتقول لنا إن العلف رخيص؟!
ولا ينسى حمود أن يتجول بين دكاكين السوق الصغيرة المتراصة ليشتري بعض علب السجائر.
ويروق له منظر ملابس الشتاء المعروضة على واجهات المحلات:
ـ آه يا لها من (فروة طفالية) جميلة.! سأشتريها لتقيني برد الشمال القارس هذا العام.
ويتناول إحدى (الفروات) المعلقة فيرتديها ويستعرض بها أمام نفسه خطوتين أو ثلاثا داخل المحل ليعرف مدى ملاءمة مقاييسها لجسمه:
ـ شيء جميل!! سأقهر برد (المربعانية) هذا العام بهذه الفروة.
ولا يفوت (حمودا) أثناء تجواله أن يختلس نظراته الماجنة لبعض النساء اللاتي يتجولن بين محلات العطارة والأقمشة النسائية ويزداد فتنة وهياجا ذكورياً حين يرى إحدى الحسناوات تقلب الأقمشة المعروضة وقد انحسر كم ثوبها عن ذراعها البض العاجي أو تلك التي تقف حانية قامتها أمام (بسطات) النساء بحيث تبرز عجيزتها من وراء عباءتها التي تلف بها جسمها.
ويطيب له أن يقترب منهن على غفلة من عيون من يراقبون السوق وهو يترنم بقصائد (الهجيني) لعلهن يسمعنه أو يعرنه ولو شيئا يسيرا من اهتمامهن:
(يا ليتني راعي الدكان ـ وأبيع زين الرعابيبِ) ـ
(أخير من ديرة الثعبـان ـ وهلالة ومرتع الذيبِ) ـ
وكثيرا ما يصاب بخيبة أمل أو ردة فعل معاكسة لما يريد ويبتغي حين يقترب من بعضهن فيزجرنه أو يكلن له سيلا من الشتائم وألفاظ السب:
ـ (انقلع) عن وجهي..!!
ـ (تف) عليك..!!
ـ يا قليل الحياء.. ما تستحي..؟
ويعود (حمود) عند غروب الشمس لـ (وادي الضواري) بعد أن باع رأساً أو رأسين من غنمه في سوق (شمالات) واشترى ببعض ثمنه ما يحتاجه من مؤونة الطعام والشراب التي تكفيه لآخر الشهر القادم كالأرز والطحين والشاي والقهوة. ولا ينسى أحيانا أن يشترى لـ (ضحى) فستانا أو عباءة أو شيئا من مستلزمات الزينة للمرأة.
وتشمئز (ضحى) وهي تفتش هدايا (حمود) إليها حين تنبعث منها ومن بين ثناياها رائحة السجائر التى يدخنها ودمن الغنم التي (يحرج) عليها في السوق، فتنـبذها جانبا بشيء من الضيق والانزعاج.
وذات ليلة هبت رياح شمالية باردة وكانت (شبة النار) لدى (عجلان) الذي اجتمع في بيته (الجواعين) يتسامرون كعادتهم حول النار متراصين بشكل شبه دائري باستثناء (حمود) الذي انتبذ مكانا قصيا من المجلس مستعيضا عن دفء نارهم بدفء فروته التي تدثر بها متحديا البرد بفخر وزهو لا يحظى به أحد من الحاضرين.. أو هكذا يبدو له على الأقل.
وفي الحرم الداخلي من البيت المفصول بـ (قاطع) يحول بينه وبين (الربعة) التي يجلس فيها الرجال تأتي (حشمة) من بيتها المجاور لتساعد رفيقتها (ضحى) في إعداد طعام العشاء على النار للرجال الذين اعتادوا تناوله بعد صلاة العشاء مباشرة.
وتجدان الفرصة سانحة أحيانا عندما يتطرق الرجال بأحاديثهم العبثية ومداعباتهم الهزلية للزواج والنساء وما رواه الأوائل عنهن من حكايات وقصص وأشعار تتهمهن بالثرثرة، ونكران العشير، وعدم الوفاء.
حينئذ تسرعان بالاندساس قرب (القاطع) للتنصت واستراق السمع من ورائه حتى تنشغلا عن الطعام المعد على النار مما ينتج عنه فوحان رائحة احتراقه التي تتسرب إلى أرجاء البيت فيتنحنح (ملحان الورطة) بخبث قائلاً:
ـ عشاكم احترق يا (الجواعين)..!
وتتنبه (ضحى) و(حشمة) لهذا الإيعاز (الخبيث) من (ملحان) فتنقلبان على أعقابهما مسرعتين تخفان الوطء في اتجاه القدر لتنحيته عن النار. يحدث ذلك كله في الوقت الذي كان يحملق خلاله (ابن ريحانة) في السماء حيث يقول للحاضرين مشيراً بسبابته إلى السماء:
هناك نجم (الإكليل) أول نجوم فصل الشتاء مدته ثلاث عشرة ليلة. ويمضي (ابن ريحانة) في حديثه موردا بعض المسجوعات الفلكية المأثورة عن الفلكيين القدامى حول مطالع النجوم حيث يقول:
- إذا طلع (الإكليل) هاجت الفحول وشالت لها الذيول وتخوفت السيول.
وهنا يوجه (مطيع الذراع) سؤالاً (شاطحاً) لابن ريحانة:
- و(اللكليل) هذا.. ما معناه؟.
فيضحك الحاضرون ومن بينهم (حمود) الذي فغر فاه بالضحك حتى سقطت سيجارته التي كان يدخنها من يده وكادت تلحق بها (شماغه) التي يعتمرها في حين صرف (ابن ريحانة) نظره إلى الجالسين قائلاً:
- اسمه (الإكليل) يا (مطيع) وليس (اللكليل).
وهو إكليل¬ العقرب من نجوم (مربعانية) الشتاء، فيه تهب الرياح الباردة ويخرج فيه كذلك الدخان من الجوف وتتلبد السماء بالغيوم ويخشى من السيول.
ويبد¬و أن (مطيعاً) أراد بسذاجته أن يتمادى في إضحاك الجالسين حيث قال:
- و(الجوف) كم تبعد عن (تبوك)؟!
وانتابت الحاضرين نوبة ضحك استلقى لها بعضهم على ظهره من شدة الضحك. بينما تقع العبارة الأخيرة لابن ريحانة في مسمع (ضحى) و(حشمة) حيث تعلق (ضحى) عليها بصوت هامس من وراء (القاطع):
ـ يخرج فيه الدخان من الجوف..؟ّ! والله إن (حمود) يخرج الدخان من جوفه طول أيام السنة ياناس..!.. في أيام (المربعانية) وفي غيرها.!!
ويقذف (أبو مصلح) مطيعا بعبارة شتم هامسة خرجت من طرف فمه الذي يلفه بأحد ذيول (شماغه):
ـ عسى العقرب تأكل جوفك اليوم قبل (بكرة)..!!
ويقطع على الرجال حديثهم ثوران الكلاب بالنباح وعواء خافت لذئب في أقصى الجهة الشمالية من (وادي الضواري) أخذوا يرهفون له أسماعهم ليستبينوا حقيقة أمره. حينها استخرج (حمود) سيجارة جديدة من جيبه، فأشعلها ومضى يدخنها بصمت مريب.
وازدادت حدة توتر الكلاب بالنباح حين رفع (عثمان الحنبلي) صوته الجهوري بالأذان لصلاة العشاء في حين استغل (حمود) قيام الرجال للصلاة منسلا من بينهم، وقصد سيارته واستقلها متوجها للجهة الشمالية من الوادي.
رياح عاتية تثير الأتربة والغبار وتنفض الأشجار نفضا، وشوشات صاخبة تختلط بصوت دوران محرك السيارة بحيث لا يمكن التمييز فيما بينهما، وظلام دامس على الرغم من استخدام (حمود) للنور العالى لسيارته. وبدا حمود يدرك أن البحث في مثل هذه المعمعة والجلبة مضيعة للوقت والجهد فهو يكاد لا يسمع شيئا حتى لو كان هناك عواء على مقربة منه ولا يرى شيئا سوى الغبار الذي تزيده أنوار السيارة الساطعة والمنعكسة على ذراته غبرة وعتمة ضبابية مما اضطره إلى إطفاء النور والمحرك فهو أجدى له سمعا وبصرا كما يبدو له. وظل حمود جامداً داخل سيارته دون حراك منتظرا هدوء العاصفة.
وبعد مضي أكثر من ساعة هدأت العاصفة فاستوت الأشجار على سوقها بعد أن كادت تقتلعها الريح وأفرغ الجو حمولته من الغبار والأتربة المتراكمة على شكل طبقات رقيقة وناعمة على (كبوت) السيارة وزجاجها الأمامي وعلى جوانب الطريق الرملي الذي يخترق (وادي الضواري).
حينئذ نزل (حمود) من سيارته وأشعل سيجارته بعود ثقاب انبثقت منه حوله هالة من الضوء لم تدم سوى بضع ثوان وترجل السير بمحاذاة أحد الجبال الذي يعتقد أن العواء على مقربة منه.
لم يكن (حمود) يشعر بشيء من الخوف مطلقا خاصة وأنه يحمل بندقيته المحشوة بالرصاص على عاتقه ولكنه أدرك حين توغل في السير أنه أخطأ حين نسي كشافه اليدوي في السيارة ليستعين به على كشف معالم الطريق الذي يسلكه. ومع ذلك فقد أصر على مواصلة طريقه بعد أن أدرك أنه ليس بإمكانه العودة للسيارة للاستعانة بالكشاف اختصارا للوقت والجهد.
وتذكر أثناء ذلك أنه راهن (ملحان الورطة) ذات ليلة على أن بإمكانه السير في الظلام واقتناص الأرانب والطيور من أعشاشها على غصون الأشجار ببندقيته دون الاستعانة بضوء. وتوهجت في نفسه جذوة التحدي لهذا الرهان الصعب حتى خيل له أن سيجارته التي يمسكها بين إصبعيه تتوهج ببصيص من الضوء يكفي لرؤية موطئ قدميه من الأرض وأن الحجارة التي تصطدم بها قدماه أثناء السير تقدح شررا يزيد معالم الطريق الذي يسلكه، وضوحاً وتجلياً.
وفاجأه أرنب مذعور فر من تحت شجرة مر بقربها منطلقا كالسهم حيث سدد إليه فوهة بندقيته بسرعة خاطفة ضاغطا على الزناد لتخرج طلقة فاتكة أصابت الأرنب في مقتله، وسمع لها دوي في الجبال المجاورة مما أثار قلق كلاب (الحي) في الجهة الجنوبية من الوادي وجعلها ترفع أصواتها بالنباح المذعور من جديد.
واستنكر (حمود) بعد أن لف الأرنب القتيل بـ (شماغه) من أن العواء الخافت لازال مستمراً وإن كان على نحو متقطع يصعب تمييزه. فكر في ذلك لحظات لما له من معرفة جيدة بطباع الذئاب فهي مخلوقات عدوانية تكتم أنفاسها حتى عن بعضها حين تشعر بوجود خطر محدق بها وخاصة عندما تسمع إطلاق النار من قبل (حمود) على هذا النحو المرعب.
ولفت نظره خيوط متفرقة من الضوء انتشرت على سفوح بعض الجبال والأشجار من حوله عرف أنها لسيارة قادمة تسلك الطريق الذي أوقف عليه سيارته عند منحدر الوادي.
ولم يكن في الأمر ما يثير استغراب (حمود) فالسيارات كثيرة، ومن يسلكون الطرقات في الليل والنهار أكثر إلا أن ما ضايقه هو وقوف سيارته على طريق ضيق ذي اتجاه واحد بحيث لا يمكن لأي سيارة قادمة أن تجتازه وإلا فإن على سائقها أن يبحث عن طريق آخر يعبر من خلاله إلى الضفة الأخرى للوادي. وتجاهل (حمود) الأمر لانشغاله بتتبع مصدر ذلك العواء الخافت حيث استأنف سيره بصعوبة شاقة متسلقاً أحد الجبال الصغيرة التي اعترضت طريقه.
وانتهى به سفح هذا الجبل الصغير أخيراً إلى واد وعر متشابك الأشجار وكان قد ابتعد عن سيارته بمسافة تقارب (الميلين) فتوقف حيث سمع على بعد مئة متر منه ذلك العواء واستطاع أن يحدد موقعه على الرغم من صعوبة الرؤية في هذا الظلام الدامس.
وتقدم بخطى حذرة متنكباً بندقيته حتى وقف على حافة بئر أدرك أنها مصدر ذلك العواء.
حينئذ أشعل عود ثقاب وحنى قامته ليرى ما في قعرها فشاهد ذئباً يبدو من منظره أنه سقط فانكسرت إحدى ذراعيه.
وأسف (حمود) لهيئته ورق لحاله وداهمه شعور بائس بحزن عميق لم يستطع تفسيره. وازداد شعوره بالأسى حين لم ير من الذئب أي مقاومة تنبئ عن عدوانية شرسة فهو ذئب مسكين جريح بعد أن كان معافى تقشعر لعوائه الأبدان، جائع بعد أن كان شبعان سجيناً مظلوماً في قاع هذه البئر بعد أن كان حراً طليقا منعوتا بالظلم والعدوان يسرح ويمرح في البراري والقفار كيفما يحلو له.
وضحك (حمود) ضحكاً باكيا دمعت له عيناه حين ازور الذئب بعنقه إلى أعلى في اتجاه فوهة البئر مطلقا من حنجرته الجريحة عواء متوجعاً تصدأ له القلوب ألماً وحسرة.
وتلفت (حمود) يمنة ويسرة لعله يجد ما يستطيع به أن ينقذ الذئب فلم يجد حوله غير دلو كبيرة مهترئة الحبال فكر أن يضع فيها الأرنب الذي اصطاده ويرخيها إليه بالحبال إلى قاع البئر.
فالبئر مهجورة ليس فيها ماء وعمقها لا يتجاوز ثلاث قامات وهذا مما شجعه على تنفيذ فكرته. وحين استوت الدلو على قاعدتها في قاع البئر أشعل (حمود) عود ثقاب آخر في الوقت الذي شم فيه الذئب رائحة الأرنب فأقبل نحوها بخطى تنبئ عن حذر بالغ على آخر ما تبقى من وهج عود الثقاب.
وما هي إلا لحظات حتى انقض الذئب بكامل جسمه على الدلو وما فيها بحيث علقت إحدى قائمتيه الخلفيتين بإحدى عرى الدلو المشدودة بالحبال شداً محكماً.
ومن هنا استغل (حمود) هذه الفرصة وانشغال الذئب عما يدور حوله بالتهام الأرنب لما يشعر به من جوع مفرط حيث بدأ يجذب الدلو بحبالها إلى أعلى برفق.
ومع أن الذئب ليس بثقيل إلى ذلك الحد المعتبر من الثقل إلا انه خشي أن ينقطع أحد الحبال المهترئة فتسقط الدلو بما فيها في قاع البئر ومن ثم تبوء محاولة الإنقاذ بالفشل.
وبعد دقائق معدودة استطاع (حمود) أن يستخرج الدلو والذئب. وحينما ألقى بهما جانباً قفز الذئب بعرج واضح من جوف الدلو وأقعى بعيداً على مرمى حجر منه في الوقت الذي راح فيه (حمود) يتحسس جوف الدلو فلم يجد سوى بقايا من دم الأرنب وعظامه.
ولفت انتباهه في حينه صوت منبه سيارة ترددت أصداؤه فيما حوله من جبال مما أثار انزعاج كلاب (الحي) في الجهة الجنوبية من الوادي وجعلها ترفع أصواتها القلقة بالنباح. وهذا بدوره أفزع الذئب الذي ولى هارباً بثلاث قوائم ونصف حمل عليها سقمه وعواءه وجوعه وشبعه وأمله في النجاة.
وارعدت (حموداً) كعادته ضحكة باكية خافتة أمطرت عينيه بدموع باردة زادتها لفحات الرياح الشمالية الباردة على خديه برودة جامدة جافة، ومضى يقول وهو يولي ظهره الذئب الهارب قاصداً سيارته:
ـ إيه..!!.. والله أمرك عجيب يا (سرحان)..!! ما عويت في الدلو على ضيقها والآن تعوي في الأرض على سعتها..!!
قالها (حمود) بنبرة سادرة تنم عن قلق نفسي دفين أعمق بكثير من أن يحتويه مجرد بئر مهجورة أو أن يسبر غوره دلو مهترئة الحبال أو أن ينبشه ذئب بذراع مكسورة ومخالب محطمة.
ربما كان مبعث هذا الشعور البائس الذي اكتنف (حموداً) هو أن ذئب البئر ليس هو ذئب (قاع ساق) الذي ظل يبحث عنه منذ سنوات ليرديه قتيلاً برصاصة فاتكة من فوهة بندقيته التي لا تخطئ هدفها، وبذلك يكون قد استوفى أحد شروط زواجه من (ضحى).
أو ربما لأن الأقدار ساقت قدميه للوقوف على بئر مهجورة في قاعها ذئب جريح جائع ليس في مستوى الخصومة والمواجهة والقوة التي ينشدها (حمود) كرجل يعتد بشجاعته وقوته أمام خصم يفترض فيه أن يتمتع بكامل قواه وأن يكون عنيداً مثله ليحقق شرف التفوق على خصم قوي لا يقل عنه شجاعة وقوة وعناداً.
فالأقوياء لا يعتدون بالتفوق على الضعفاء ولا يليق بهم أن يدعوا من وراء ذلك شرفاً.
يتبــــــــــــع