الحمد لله الذي أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، ورضي لنا الإسلام منهج حياة بفهم خير البشر السادات ، الرسول وصحبه الذين رضي الله عنهم ووعدهم الجنات ، وتوعد من خالف سبيلهم بولاية من تولى والنّار بعد الممات ، وأصلي وأسلم على سيد الخلق المبعوث بالرحمات ، وآله وصحبه خيار السادات ، والتابعين لهم بالصالحات .
أما بعد :
اعلم - أرشدك الله - لمنهج النبوة الحق أن البدع والمحدثات في الدين لها خطورة عظيمة، وآثار سيئة على الفرد والمجتمع بل وعلى الدين كله أصوله وفروعه؛فالبدع: إحداث في الدين، وقول على الله بغير علم ، وشرع في الدين بما لم يأذن به رب العالمين ، والبدعة تشويه للدين، وتغيير لمعالمه وأعلامه المتقين ..
والخلاصة أن البدعة خطر عظيم على المسلمين في أمر دينهم ودنياهم ، وليس من شك أن البدع أشد خطرا من المعاصي ، وأضر على الفرد والجماعة من الذنوب .
وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
قال السمعاني – رحمه الله - في تفسيره (4/347) وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي أهل الْأَهْوَاء والبدع، وَعَن قَتَادَة: أَنه قَالَ: مِنْهُم الْخَوَارِج الَّذين يسْتَحلُّونَ الدِّمَاء وَالْأَمْوَال، قَالَ: وَأما أهل الْكَبَائِر فَلَيْسَ مِنْهُم؛ لأَنهم لَا يسْتَحلُّونَ الْكَبَائِر.
وقال عز وجل يبين الفرق بين من كان على بينة من ربه وهدى ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا : {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} .
قال السعدي – رحمه الله- (5/28): أي: لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه ، علما وعملا قد علم الحق واتبعه ، ورجا ما وعده الله لأهل الحق ، كمن هو أعمى القلب ، قد رفض الحق وأضله ، واتبع هواه بغير هدى من الله، ومع ذلك ، يرى أن ما هو عليه من الحق، فما أبعد الفرق بين الفريقين! وما أعظم التفاوت بين الطائفتين، أهل الحق وأهل الغي ( والزيغ)! (1).
وقال سبحانه وتعالى : {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} أي لا أحد أضل ممن يضل بسبب اتباع هواه .
قال السمعاني –رحمه الله - في تفسيره (4/145): وَقَوله: {فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم} وَاتفقَ أهل الْمعرفَة أَن الْهوى مرد مهلك .
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: (( إِن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم شحا مُطَاعًا، وَهوى مُتبعا، وَإِعْجَاب كل ذِي رَأْي بِرَأْيهِ )).انتهى كلامه .
هذا الحديث وإن كان سنده ضعيفا إلا أنه في غاية العدل والحق والحكمة ، فهذه الثلاث المذكورة في الأثر من الشح المطاع ؛ والهوى المتبع ؛ وإعجاب كل ذي رأي برأيه هي سبب الشر في كثير من أئمة الضلالة في هذه الأمة ، وهي من أعظم الأسباب التي فرقت الأمة إلى نحل وفرق ابتدعت فضلت ، وأعجبوا بما زين لهم الشيطان من عملهم ؛ لذلك كانت هذه الأمور من أعظم الأبواب للابتداع في الدين ، فاتباع الهوى يورث الزيغ والضلال والبدع ، والشح يورث التعصب والغلو فيه ، والإعجاب بالرأي يورث عدم التوبة والإنابة والرجوع إلى الله لما يرى من العمل المُزين حقا وهو باطل .
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ الله حجب التوبةَ عن كلِّ صاحب بدعة حتى يدَع بدعتَه))، أورده المنذري في كتاب الترغيب والترهيب (86) ، في الترهيب من ترك السنة وارتكاب البدع والأهواء، وقال: رواه الطبراني، وإسناده حسن، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (1620) .
فهذه الخلال الثلاث من أهم الخصال التي يتصف بها أهل البدع ، والغريب ليس في هذا لأنه متفق عليه عند أولي الألباب من أهل السنة المحضة ، ولكن الغريب والعجيب أن ترى وتسمع ممن ينتسب إلى العلم وإلى منهج الطائفة الرضية والفرقة الناجية من يهون من شأن البدع وأهل الأهواء
ويستعظم المعاصي والذنوب مع أن خطر البدع وشرها أعظم بكثير من خطر المعاصي والذنوب .
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ الرَّجُلِ قَيْحًا يَرِيهِ (2)خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا)) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِلَّا أَنَّ حَفْصًا لَمْ يَقُلْ (يَرِيَه) (البخاري (6154-6155)ومسلم (2257).
وفي صحيح مسلم (2259)عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرْجِ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( خُذُوا الشَّيْطَانَ، أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا))(3).
إن تصوير امتلاء الجوف بالشعر المنهي عنه بالداء القبيح الخطير الذي يحدث قيحا لتصوير في غاية الترهيب والتنفير منه ، وليس من شك أن الشعر المنهي عنه سواء كان فيه هجو للأنبياء والصالحين ، أو ذكر للنساء والخمر ، أو كثرة الاشتغال به الذي يشغل عن القرآن والحديث والذكر أنه معصية وأي معصية تورث امتلاء الجوف داء عضالا وقيحا من العانة إلى اللهاة والعياذ بالله .
فكيف إذا امتلأ الجوف بالشبه والبدع والمحدثات والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها إلا في القلوب الزائغة والحكايات المنسوجة في العقول الحائرة ونحوها.مما يورث القلب الزيغ والضلال والبدعة والخذلان إن عاجلا أو آجلا .
حتى إذا امتلأ القلب بذلك وجاءته حقائق القرآن ومواعظه ، وجاءه منهج النبوة الذي به كماله ونجاته وسعادته لم تجد فيه محلا ؛ ولا قبولا فتركته ليطبع عليه بالرّان ويزيغ عن سبيل أهل الإيمان.
وليعلم – الناصح لنفسه - أن امتلاء القلب بالشبه والمحدثات والبدع والشكوك والتوهمات وغيرها .. مما يورث الضلال والزيغ لأعظم خطرا من امتلائه بالذنوب والمعاصي ، وإن كانت هذه الأخيرة خطيرة تحدث غشاوة على القلب لكنها سرعان ما تحترق بحرارة التوبة النصوح فيصفوا القلب ويصقل ويقبل الهدى والرشاد ، على خلاف البدع والمحدثات المبنية على الشبهات والاستحسانات فإن صاحبها يرى نفسه على الحق بما زُين له من ذلك فلا يتوب ولا يرجع .
ومن هنا حكم السلف بأن البدع والمحدثات أشد وأعظم خطرا على المسلم في دينه ودنياه من المعاصي ، والعجب كل العجب ممن يعرف طريق القوم من أهل البدع والزيغ والضلال وما ينشرونه من الباطل الملبس والمزين بالحق ثم يكون عونا لهم وسببا لنشر فسادهم ، وضلالهم مع
أنه يعلم علم يقين أن ما عند أهل السنة المحضة أتباع السلف الصالح يكفي ويغني عما عند أولئك من الحق المخلوط بالشبه والتأويل الفاسد والتحريف العمد.(4).
قال البربهاري ص (123-124) : " إذا رأيت الرجل من أهل السنة، رديء الطريق و المذهب فاسقا فاجرا، صاحب معاصي ضالا، وهو على السنة، فاصحبه، واجلس معه، فإنه
ليس يضرك معصيته، (وإذا رأيت الرجل مجتهدا في العبادة، متقشفا محترقا بالعبادة، صاحب هوى، فلا تجالسه، ولا تقعد معه، ولا تسمع كلامه، ولا تمش معه في طريق، فإني لا آمن أن تستحلي طريقته، فتهلك معه.
هذا هو الفقه الصحيح لمّا يدرك طالب العلم خطر البدع والأهواء التي تجره إلى الضلال وربما تخرجه عن دائرة الإسلام وهو يرى نفسه على الحق .
ورأى يونس بن عبيد ابنه وقد خرج من عند صاحب هوى، فقال: " يا بني من أين جئت؟ ".قال: من عند فلان.
قال: " يا بني، لأن أراك خرجت من بيت خنثى أحب إلي من أن أراك تخرج من بيت فلان وفلان، ولأن تلقى الله يا بني زانيا، فاسقا، سارقا، خائنا، أحب إلي من أن تلقاه بقول فلان وفلان ".
أنظر- يا رعاك الله - إلى كلام هذين العالمين الربانيين ، كلام البربهاري في غاية الوضوح وأنه لا يخشى على أهل السنة المحضة من مجالسة أهل المعاصي والذنوب من أهل السنة ؛ لأن عاقبتهم إلى خير ماداموا على السنة ومنهج السلف الصالح ؛ فينبغي الرفق بهم ومجالستهم والتعاون معهم ، ولكن للأسف انقلبت الموازين والمفاهيم عند البعض من قومنا وإخواننا فأصبحوا
يستعظمون المعاصي والذنوب ويهونون من شأن البدع وخطرها فيؤذون بذلك إخوانهم الذين بحت أصواتهم وكادت أقلامهم تجف في التحذير من أهل البدع والأهواء ..
وأنظر أخي - رعاك الباري - إلى يونس بن عبيد - رحمه الله - كيف جعل أهل المعاصي أخف خطرا على ابنه من أهل الأهواء والبدع ، لا لشيء إلا أنه يعلم يقينا أن صاحب الصفات التي يمكن أن توقعه في المعصية ( الخنثى ) لا يضل ابنه عن دينه ، وأن صاحب البدعة يضله حتى يكفر؟
بل أكثر من ذلك حتى لو مات ووقع في شيء من ذلك ولقي الله زانيا، فاسقا، سارقا، خائنا أحب إليه من أن يلقاه وهو متلبس بقول فلان وفلان من أهل البدع والأهواء التي يمكن أن تخرجه عن الإسلام إلى الكفر ، لأن البدعة استدراك على المُشرع سبحانه وتعالى وقول عليه بغير علم ، وهي بريد الكفر ..
وهنا تنبيه مهم :
وهذا ليس تهوينا للكبائر والموبقات، وإنما هو تعظيم لخطر البدع والمحدثات، وأنه مع عظم الزنا والسرقة وغيرهما من المعاصي والفجور، إلا أن البدع أعظم جرما وخطرا ، وصحبة أربابها أشد ضررا من وجوه .
أحدهما: اغترار الناس بالمبتدع إذا كان مظهره الصلاح والعبادة ، فالثقة به أعظم من الثقة بغيره ممن ظاهره التواضع والتخفي بالصلاح ، ممن يماشي الّناس وكأنه واحدا منهم مغمور فيهم .
الثاني: أن المبتدع يتخذ بدعته دينا يتدين به ، فليلقي الشبه معتمدا على المتشابه مما يغتر به بعض العامة، ومن لا بصيرة له ولا علم.
ثالثا : المبتدع لا يمكنه أن يجاهر ببدعته ويصرح أنها بدعة بل يضيفها إلى الدين ؛ وربما استدل لها بعام من العمومات ؛ أو بحديث موضوع ؛ أو ضعيف لا ينجبر ، ويدعو إليها ، ويذب عنها، ويجادل دونها، فخطر التأثر به كبير ، أما العصاة فإنهم إن لم يستروا معاصيهم ويخجلوا منها لم يدعوا إليها.
رابعا : ظهور المعاصي عند النّاس فلو أن عاصيا دعا بعض النّاس إليها لم يستجيبوا له لمعرفتهم أنها معاصي وقبائح ، وحتى لو استجاب بعضهم فإنه يستجيب بداعي الشهوة لا بداعي
الشبهة ، والشهوة التي ورثت معصية تنطفي بالتوبة ، والشبهة التي ورثت البدعة لا تنطفي لأن صاحبها لا يتوب منها .
وإن تأثر أحد بمعصية فهو أخف من تأثره ببدعة مبتدع ربما أخرجته من الإسلام أو كادت فالأول يرجى له التوبة ولو تأثر لأنه يعرف أنه وقع في معصية ، والثاني لا يرجى له لأنها محجوبة عنه .
خامسا : خفاء البدع عن النّاس وخاصة الإضافية منها ، فما أوتي أهل الأهواء إلا من هذا الباب الذي يعتمدون فيه على المتشابه ولا يردونه للمحكم ، كما يعتمدون أدلة عامة ليس فيها تلك الجزئية ؛ ويعتمدون أيضا على الأحاديث التي لا تصح ويبنون عليها أحكاما أحدثوها ثم نشروها حتى صارت سنة عندهم أماتوا بها سنة.
وليس بخاف على أحد أن علماء المسلمين جميعا ينهون عن الكبائر والمعاصي، وعن صحبة أربابها، وهم حين يجعلون البدع والمبتدعة أشر من العصاة والمعاصي فلبيان خطر البدع والمبتدعة ، لا لتهوين المعاصي والكبائر.
ومراد يونس بن عبيد (بفلان وفلان) عمرو بن عبيد، كما في بعض نسخ كتاب البربهاري، وذلك مذكور في حاشية طبعته، وقد ذكر الذهبي قصة يونس بن عبيد مع أبيه، وفيها التصريح بعمرو بن عبيد.
فذكر الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (6 / 294) : (أن خويلا - يعني ختن شعبة - قال: كنت عند يونس، فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله تنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد، وقد دخل عليه ابنك؟
قال: ابني؟
قال : نعم.
فتغيظ الشيخ، فلم أبرح حتى جاء ابنه، فقال: يا بني قد عرفت رأيي في عمرو ثم تدخل عليه؟
قال : كان معي فلان، وجعل يعتذر.
قال: أنهاك عن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ولأن تلقى الله بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو) اهـ.
وقال الفضيل بن عياض : آكل مع يهودي ونصراني، ولا آكل مع مبتدع، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد. شرح السنة للبربهاري(1/37).
هذا التمثيل من الفضيل بن عياض – رحمه الله – ليس حبا في اليهود والنصارى ، ولا تقربا منه لهم ، ولا استخفافا بضلالهم وكفرهم ، فاليهود والنصاري ضلالهما واضح بين ، فبمجرد أن تذكر للعامة اليهودي والنصراني ينفرون ويمقتون سماع ذلك ، ولكن مثّل
الفضيل - رحمه الله- بذلك تعظيما لخطر مجالسة المبتدع في دين الله المنحرف عن السنة وتحذيرا منه لأن خطره عظيم فهو يتكلم بمتشابه القرآن ، ويحرف الكلم عن مواضعه ، ويزين الباطل ، ويؤول الحق باسم الدين والسنة فيخلط الحق بالباطل فيغتر به من لا يعرفه وليس عنده علم يميز بين الغث والسمين والبدعة والسنة ، وما أكثر هؤلاء في مجتمعنا .
ألم تر- أيها الفاضل الناصح لدينه- أن النبي صلى الله عليه وسلم هجر الثلاثة الذين خلفوا، واشتد عليهم في ذلك مع صلاحهم وصدقهم، ولم يهجر المنافقين مع كفرهم وكذبهم؟
فهل يقول أحد: إن المنافقين أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحابته الصالحين، أو أنه صلى الله عليه وسلم يقارب مع المنافقين، ويتشدد على المؤمنين؟
وإنما كانت مصلحة الثلاثة المخلفين في هجرهم؛ ليتوبوا ويصدقوا الله، ويتوب الله عليهم، ويعفو - سبحانه - عنهم، فيكمل أجرهم، ويستقيم أمرهم، أما المنافقون فلا خير فيهم، ولا رجاء لاستقامة حالهم، فكذلك أصحاب البدع لا خير فيهم ولا طمع في استقامتهم فلمَ التعاون معهم ؟ وهو مضيعة للجهد والوقت وتكثيرا لسوادهم ونشر فسادهم .
قال الشيخ عبد المحسن العباد الحث على اتباع السنة والتحذير من البدع وبيان خطرها(1/50)
خطر البدع وبيان أنَّها أشدُّ من المعاصي .
والبدعُ خطرُها كبير، وخطْبُها جسيم، والمصيبة بها عظيمة، وهي أشدُّ خطراً من الذنوب والمعاصي؛ لأنَّ صاحبَ المعصية يعلم أنَّه وقع في أمر حرام، فيتركه ويتوب منه، وأمَّا صاحب البدعة، فإنَّه يرى أنَّه على حقٍّ فيستمرّ على بدعته حتى يموت عليها، وهو في الحقيقة متَّبع للهوى وناكبٌ عن الصراط المستقيم..
وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ..
وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} .. وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} ..
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ الله حجب التوبةَ عن كلِّ صاحب بدعة حتى يدَع بدعتَه)).السلسلة الصحيحة للألباني (1620) انتهى كلامه .
جاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى ابن أبى السائب عن رجاء بن حيوة أنه كتب إلى هشام بن عبد الملك أمير المؤمنين: (( بلغني أنه دخلك من قبل غيلان وصالح، فأقسم بالله لقتلهما أفضل من قتل ألفين من الترك والديلم )). أصول الاعتقاد (4/ 792 - 793/ 1327) والإبانة (2/ 10/239/ 1850) والشريعة (1/ 439/557).
الله أكبر ما أعظم هذا، انظر- يا رعاك الله - يرحمك الله كيف عَرَف السلف وأدركوا خطر البدع على الأمة الإسلامية ، فجعلوا قتل رجل من أهل البدع والأهواء يعادل قتل ألفين من الكفرة.. هل يعقل هذا ؟؟
نعم هو معقول لما في ذلك من شر مستطير وفساد خطير على الفرد والجماعة ، فكيف لو عاش البربهاري أو الفضيل بن عياض أو يونس بن عبيد او ابن ابي السائب أو رجاء بن حيوة أو غيرهم من علماء السلف – رحمهم الله جميعا - إلى هذا الزمان الذي صارت فيه الكلمة للمبتدعة ، وأن غربة أتباع السلف الصالح شديدة ، حتى صار العالم الإسلامي لا يكاد يعرف إلا البدع - إلا من رحم ربك - وأنها هي السنة بل الإسلام ، وأن من قال بخلافها يعتبر خارجيا أو متطرفا أو متنطعا أو وهابيا أو جاميا أو مدخليا إلى غير ذلك من الألقاب التي اخترعها المبتدعة وأعوانهم، للتنفير من أهل الحق أتباع السلف الصالح والله المستعان.
ومع هذا كله ، ومع بيان العلماء الكبار لأهل البدع والأهواء نجد في بعض إخواننا من يتعاون معهم ويجالسهم ، ويلين جانبه معهم ويضعف في مواقفه معهم ، وأقبح منه من ينكر عليهم ظاهرا ويتعاون معهم باطنا ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقد كان معاذ بن جبل – رضي الله عنه - يقول في كل مجلس يجلسه: الله حكم قسط تبارك اسمه، هلك المرتابون، إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير، فيوشك الرجل أن يقرأ القرآن فيقول: قد قرأت القرآن، فما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن، ثم ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فإنما ابتدع ضلالة. واتقوا زيغة الحكيم فإن الشيطان يلقي على في الحكيم
الضلالة ويلقي المنافق كلمة الحق قال: قلنا: وما يدرينا يرحمك الله أن المنافق يلقي كلمة الحق، وأن الشيطان يلقي على في الحكيم كلمة الضلالة. قال: اجتنبوا من كلام الحكيم كل متشابه الذي إذا سمعته قلت ما هذا؟ ولا ينأ بك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع ويلقي الحق إذا سمعه، فإن على الحق نورا. أصول الاعتقاد (1/ 99 - 100/ 116) وأبو داود (5/ 17 - 18/ 4611) والإبانة (1/ 2/307 - 308/ 143) .
الهوامش :
(1). ما بين قوسين إضافة مني يقتضيها السياق .
(2). [ ش (يريه) قال أهل اللغة والغريب يريه من الوري وهو داء يفسد الجوف ، ومعناه قيحا يأكل جوفه ويفسده . شرح مسلم (4/1769). [محمد فؤاد عبد الباقي] .
(3) اختلف أهل العلم في توجيه هذا الحديث وفي الشعر الذي يكون سببا في هذا الوصف وأحسن ما قرأت في ذلك ما ذكره الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/295 -358)
قال أبو عبيد القاسم بن سلام : قال بعضهم المراد بهذا الشعر شعر هجي به النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيد والعلماء كافة هذا تفسير فاسد لأنه يقتضي أن المذموم من الهجاء ما يمتلئ منه الجوف دون قليله وقد أجمع المسلمون على أن الكلمة الواحدة من هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - موجبة للكفر قالوا بل الصواب أن المراد أن يكون الشعر غالبا عليه مستوليا عليه بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى وهذا مذموم من أي شعر كان فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه فلا يضر حفظ اليسير من الشعر مع هذا لأن جوفه ليس ممتلئا شعرا] نقله محمد فؤاد عبد الباقي في شرح مسلم (4/1769).
4 - والعجب ممن يرى شيخه وأهل طائفته وجماعته يقعون في البدع والمحدثات الواحدة منها تخرج صاحبها من السنة ، ويهون من ذلك ولا يستنكر عنهم ؛ بل يعتذر له بأعذار ربما تكون أقبح من ذنب ، أو يتمسك في عذره لهم بخيط أوهى من خيوط بيت العنكبوت ؛ بل لا يكتف بذلك حتى يدافع ويستميت الدفاع متعصبا على حد قول الشاعر الجاهلي:
(وَمَا أَنا إِلَّا من غزيَّة إِن غوت ... غويت وَإِن ترشد غزيَّة أرشد)
وبالمقابل يستعظم الأخطاء من قبيل الذنوب والمعاصي ويقيم الدنيا ولايقعدها إذا رأى مبتلى بمعصية فيلعن النفير العام عليه من التعيير والسب والهجر والقطيعة ، أما البدع والمحدثات هي الإسلام وهي السنة ..
وبعضهم لا يقبل حتى المناقشة في ذلك لضيق عطنه ، ناهيك عن النصح ، بل يغضب ويحمر أنفه إذا ناصحته أو ناصحت شيخه ، ولا يعلم المسكين أن ما وقع فيه شيخه أو جماعته من البدع والمخالفات لمنهج السلف هو أشد وأعظم مما وقع فيه غيره ممن خالفه في الرأي أو وقع حتى في بعض صغائر الذنوب التي لا يخلو منها أحد حاشا الأنبياء .
فنسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطل ويرزقنا اجتنابه .
منقول للحاجة الماسة إليه في هذا الوقت