((عنترة بن شداد إلياذة العرب و الملحمه العالميه ))
============================
يسجل مؤرخو الملاحم الشعبية «سيرة عنترة» بين روائع الملاحم الشعبية، ليس على الصعيد العربي فقط، بل باعتبارها من الموضوعات الرئيسية في الأدب العالمي.
تعد سيرة عنترة، في الأدب وتاريخ الميثولوجيا، من روائع الملاحم القصصية. والملحمة كما نعلم هي حكاية حياة الأبطال التاريخيين أو القدّيسين، والقادة العظماء عند الشعوب والأمم، ممن سموا إلى مراتب الإنسان - الأعلى super man - أو «الإنسان الكامل».
ومع أن هؤلاء هم في العادة بشر عاديون «من أمثال جان دارك الفرنسية، وعنترة، في العصور القديمة، وغاندي، وجيفارا، ومانديللا في العصور الحديثة، إلا أنهم احتلوا في الوجدان الشعبي مراتب القدّيسين الشهداء أصحاب البطولات والكرامات والمقامات الدينية.
ويقارن البعض بين سيرة عنترة، وسيرة «السيدلاسايد» Lecide ، فارس قشتالة الإسبانية - كورناي - والذي قتل في محاربة العرب باعتبارهم فاتحين ومستعمرين لإسبانيا، سنة 1099م، وهي مقارنة تقوم على منطق التضاد والمفارقة.
وبالمقابل، ثمة إجماع في الخيال العربي على عنترة البطل الملحمي الجاهلي، الذي بالرغم من أنه لم يكن يدافع لا عن الأمة ولا عن الدين، بل عن قبيلته وحقه في التقدير، وطلب الاعتراف بالذات والجدارة والكينونة (الحق بالاعتراف وتحقيق الذات)، فإنه مثّل في الوجدان الجمعي مثال الحرية والفروسية والبطولة والشهامة والكرامة، والنبل الإنساني، فيما يتعدى اللون والجنس والأصل والفصل، والحسب والنسب.
ويقارن البعض الآخر من المؤرخين بين «سيرة عنترة» عند العرب و«الإلياذة» عند الإغريق، لاسيما «سيرة أخيل» - التي يبدو أن لها أساسًا تاريخيًا - كسيرة عنترة - وإن تحوّلت في الوعي والمخيال الإغريقي إلى أسطورة ميثولوجية.
وقد كُتبت أكثر من خمسين أوبرا عن موضوع أخيل، كما رسم الفنان روبنز لوحتين: واحدة تسمى ثيتسي (أم أخيل وهي وفق الأسطورة حورية ماء تزوجها والد أخيل بليوس) تغمس أخيل في نهر ستيكس، والثانية: أخيل يقتل هكتور.
وقد اشتهر أمر عنترة - كما يلاحظ المؤرخ فيليب حتي «تاريخ العرب» - في حرب داحس والغبراء، وهي من أعظم الحروب وأشهرها عند العرب في العصر الجاهلي، وقد شبه المؤرخ عنترة - شاعرًا ومحاربًا - بأخيل، كرمز لعصر البطولة العربية.
هذا وقد اشتهر عنترة بقصة حبه لابنة عمه عبلة، بنت مالك، وكانت من أجمل نساء قومها في نضارة الصبا وشرف الأرومة، بينما كان عنترة بن عمرو بن شداد العبسي ابن جارية فلحاء، أسود البشرة، وذاق في صباه ذل العبودية، والحرمان وشظف العيش والمهانة، لأن أبيه لم يستلحقه بنسبه، فتاقت روحه إلى الحرية والانعتاق.
غير أن ابن الفلحاء، عرف كيف يكون من صناديد الحرب والهيجاء، يذود عن الأرض، ويحمي العرض، ويعف عن المغنم:
ينبئك من شهد الوقيعة أنني ------أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وعنترة (كمثال لأخلاقية الحرب والنبل والشهامة والحميّة)، استحق تنويه النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - عندما تُلي أمامه قول عنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظلّه --------حتى أنال به كريم المأكلِ
فقال الرسول: «ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة». ويقول صاحب الأغاني: «قال عمر بن الخطاب للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازم. قال: كيف يكون ذلك؟ قال: كان قيس بن زهير فينا، وكان حازمًا فكنا لا نعصيه. وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم. وكان فينا الربيع بن زياد وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه. وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره… إلخ».
ولعل في هذا المثل السالف آية وعلامة على «فن الحرب» الذي كان يعتمد في العصور القديمة على الرأي والاستراتيجية والقيادة الحكيمة، والشعر (التعبئة) والقوة القائمة على العنف والغلبة.
وقد قيل لعنترة: أأنت أشجع العرب وأشدها؟ فقال: لا. فقيل. فبماذا شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزمًا، ولا أدخل إلا موضعًا أرى لي منه مخرجًا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة التي يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقتله كما انني اكثر منهم صبرا فلما قيل له كيف -قال عض على اصبعي وانا اعض على اصبعك في ذات اللحظه -فما هي الاهنيئه فصرخ عندها قال عنترة لو صبرت لكنت ان الصارخ -
وهذه الآراء تؤكد اقتران الحيلة والحنكة والصبرفي فن الحرب عند عنترة مع أقرانه في عصر السيف والرمح والفروسية.
لا شك في أن عنترة كان أشهر فرسان العرب في الجاهلية، وأبعدهم صيتًا، وأسيرهم ذكرًا وشيمة، وعزة نفس، ووفاء للعهد، وإنجازًا للوعد وهي من الأخلاقيات المثلى في قديم الزمان وحديثه.
هذاومن المعلوم ان عنترة نشأ وترعرع في كنف أب من أشراف القوم وأعلاهم نسبًا، ولكن محنته جاءته من ناحية أمه «الأَمَة» ولم يكن ابن الأمة يلحق بنسب أبيه إلا إذا برز وأظهر جدارته واستحقاقه للحرية والعتق، والشرف الرفيع، وهذا ما حصل في حال عنترة الذي اشترى حريته بسيفه وترسه ويراعه (لسانه) الشعري، وأثبت أن الإنسان صانع نفسه، وصاحب مصيره، بغض النظر عن أصله وفصله، وجنسه، ولونه وشكله.
يقول عنترة:
لا تسقني ماءَ الحياة بذلةٍ -------بل فاسقني بالعز كأس الحنظَلِ ماءُ الحياة بذلةٍ كجهنم --------وجهنم بالعزِّ أطيب منزل
وكان شعر عنترة صورة مثلى عن شمائله، ومناقبه. بالرغم مما يقال عن رفض ذوي عنترة تزويجه من عبلة لتشبيبه بها، وذكرها في قصيده، بحيث كانت هي البطلة الدرامية لمعلقته، وكانت صورتها ترتسم على صفحة السيوف عندما تحمى الوطيس تشتدالمعارك:-
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني------- وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت------- كبا رق ثغرك ا لمتبسم
ويقال ان هذا التصوير الابداعي للعواطف الانسانيه وهذا التشبيه البلاغي مع الجمع بين المتضادات لم ياتي به احد لا قبل عنترة ولا بعده .
هل تزوج عنترة عبلة بعد أن كرّ فأصبح حرًّا، وبعد أن فارس بني عبس الاول وحامي حماها؟
رأى البعض (عمر الدسوقي، «الفتوة عند العرب»)، أن عنترة لم يتزوج عبلة، بل تبتل في محراب حبها، وأن أباها وأخاها منعاه زواجها فأبيا عليه مصاهرتهما، لتشبيبه بها، وأنها زوّجت أحد أشراف قومها، وزفّت إليه رغمًا عن عنترة.
ويميل آخر من «ديوان القرشي» إلى الرأي القائل إن عنترة تزوج عبلة بعد أن زالت عنه هجنة النسب، وأصبح ابن عم لعبلة بآصرة القرابة الوثقى، وبعد ان فعل الافاعيل والتي هي وراء معظمها (وراء كل عظيم امرأة )وحجة هؤلاء أن شيم عنترة وبداوته تأنف التغزل بمن زُوجت لغيره، وألحقت بكنف سواه. ولو كانت متزوجة من غيره، لما تغزّل بها إلى درجة لا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من ذكرها وهو الذي يقول :-
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي------- حتى يوارى جارتي مأواها إني امرؤ سمح الخليقةِ ماجدٌ ------- لا أتبع النفس الجنوح هواها
وهناك موشح أندلسي ينسب إلى عنترة وفيه قوله:
لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم ------ولا رضيت سواكمو في الهوى بدلا لكنه راغب في من تعذبه -------وليس يرضى لا لومًا ولا عذلاً
وهذا البيت الأخير يؤكد هيمان عنترة في مَن احب ، وقد كانت عبلة وظلت الأثيرة في حياته حتى مماته. وقد انتهت حياة البطل عنترة بعد أن بلغ من العمر عتيًا، ويشبه مماته ميتة أخيل، كفارس يقاتل في التسعين من عمره، في كبره، ومات مقتولاً إثر رمية سهم، وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص من قبيلة طيء. وكان لامارتين الشاعر الفرنسي معجبًا بميتة عنترة الذي ما إن أصيب بالسهم المسموم وأحسّ أنه ميت لا محالة، حتى اتخذ خطة المناضل - حتى بعد مماته - فظل ممتطيًا صهوة جواده، مرتكزًا على رمحه السمهري، وأمر الجيش بأن يتراجع القهقرى وينجو من بأس الأعداء، وظل في وقفته تلك حاميًا ظهر الجيش والعدو يبصر الجيش الهارب، ولكنه لا يستطيع اللحاق به لاستبسال قائده البطل في الذود عنه ووقوفه دونه، حتى نجا الجيش وأسلم عنترة الروح، باقيًا في مكانه، متكئًا على الرمح فوق جواده الأبجرولهذا قيل عن عنترة انه حمى عبس حيا وميتا .
وبسسب مثل هذه الرواية وغيرها من البوطولات التي سطرها، نُسجت حكاية عنترة وسيرته في فن الحكواتي، وملاحمه، وتوسعت سيرة عنترة، وأصبحت كـ «ألف ليلة وليلة» سيرة سردية كبرى، أضاف عليها المخيال الشعبي حكاياته عبر القرون. يرى د.عبدالحميد يونس أن السيرة استغرقت خمسة قرون وأكثر حتى تكاملت في سيرة جامعة، ويعني هذا الرأي أن «سيرة عنترة» أصبحت ملك الحكواتي وكاتبي السير الشعبية والأدبية من الرواة والإخباريين. ومع أن الرواية لعبد الملك الأصمعي وهو أشهر رواة «سيرة عنترة»، غير أن السيرة تراكمت واتسعت حتى قيل إن راويها من المعمّرين، وإنه عاش ما يقارب من سبعة قرون.
ولاحظ مارون عبود (كتاب «أدب العرب»). أن الكبت ومركب النقص كانا عاملين من العوامل التي أثرت في شخصية عنترة، وأججّت طموحه إلى المجد والشعر والفروسية، وقد عوّض عقدة النقص، بعد أن مُست كبرياؤه بأفعاله وشمائله وشجاعته، ومناقبه التي حوّلت النقص إلى «عظمة» ومجد وتعالٍ .
إني امرؤ من خير عبسٍ منصبًا ------شطري وأحمي سائري بالمنصلِ ولقد أبيتُ على الطوى وأظلّه ------- حتى أنال به كريمَ المأكل
وقد أثرت سيرة عنترة على كل الفنون، كالحكاية «الحكواتي خاصة»، والرسم الشعبي، والشعر، والغناء والموسيقى.
وتناول الرسم الشعبي «أبو صبحي التيناوي، يوسف حرب، وغيرهما»، سيرة عنترة باعتبارها رمزًا للبطولة والفروسية والإخلاص في الحب، ورفض العبودية والعنصرية والسعي وراء العدالة الاجتماعية والمساواة وتحقيق الذات.
يتبع :--